للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تبديل الأرض غير الأرض والسماوات]

وفي ذلك اليوم يحشر العباد على أرض غير هذه الأرض التي يعرفونها، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي) قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:٤٨] وفي هذه الآية يقول ترجمان القرآن عبد الله بن مسعود: تبدل الأرض أرضاً كأنها القصعة، كأن لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة.

وعند عبد بن حميد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة، قال: بلغنا أن هذه الأرض -يعني أرض الدنيا- تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها.

وفي حديث الصور الطويل تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان على ظهرها، وفي تلك اللحظة التي فيها تبدل الأرض غير الأرض أين يكون الخلائق؟ لقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! يوم تبدل الأرض غير الأرض أين يكون الناس يا رسول الله؟ فقال: على الصراط) رواه مسلم، وفي صحيح مسلم -أيضاً- عن ثوبان أن حبراً من أحبار اليهود سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر).

وفي ذلك اليوم العظيم يوم القيامة يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماوات ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يأخذها بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].

أما الجبال في ذلك اليوم العظيم فتدك دكاً وتكون مثل كثبان الرمل المهيلة، بعد أن كانت حجارة صماء، وتكون كالعهن المنفوش، كالصوف المتطاير {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:١٤] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:١٠٥ - ١٠٧].

أما البحار في ذلك اليوم فإنها تفجر وتشتعل نيراناً عظيمة قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:٣] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:٦] أما السماء فتمور موراً عظيماً، وتضطرب اضطراباً، وتنفطر وتتشقق فتكون بعد ذلك واهية {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:١] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:١] {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:١٦].

أما الشمس الجميلة المشرقة فإنها تكور وتجمع ويذهب ضوؤها، وأما القمر فإنه يخسف ويذهب ضوؤه، وأما النجوم المتلألئة فإنها تنكدر وتتناثر، وتنصب كأن لم تكن شيئاً.

فما حالكم معاشر العباد في هذه الأهوال؟ وما مكانكم في تلك العظائم؟ وما موقفكم من الجبار جل وعلا؟ هل تكونون في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؟ هل تكونون عند الفزع من الآمنين؟ هل تكونون من الذين يبعثون مطمئنين؟ أم -ولا حول ولا قوة إلا بالله ونسأل الله ألا نكون جميعاً منهم- من الذين يبعثون صرعى سكارى تخبطهم الشياطين، وتتمايل بهم بطونهم من الربا، ويدورون في هذا الهول وهذا المحشر سكارى ومجانين، نعوذ بالله أن نكون في حال أولئك.

معاشر المؤمنين تأملوا وتدبروا حال ذلك اليوم العظيم، إننا لفي غفلة، وإن الكثير منا في لهوه وفي سكره، لا يتذكر موته، ولا يتذكر قبره، ولا يتذكر بعثه، ولا يتذكر نشوره، ولا صحيفته، وهل يقبضها بيمينه أو بشماله، ويتذكر الصراط هل يمر عليه أم تختطفه كلاليب جهنم، لا يتذكر هل يكون من أهل النار أم من أهل الجنة، أي غفلة في القلوب وأي سكرة في العقول، وأي إعراض عن ذكر الله وهديه؟ نعوذ بالله أن نكون من الغافلين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:١ - ١٣] عند ذلك {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:١٤] ولا ينفعها ليت ولا تمني.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.