للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نفور الناس من ذكر الموت]

فيا أحبابنا سؤال يسأله كل واحد منا نفسه: لماذا هذه الغفلة؟ وكيف حلت بنا هذه الغفلة؟ وما السبيل إلى العلاج من هذه الغفلة؟ لقد حلت الغفلة واستحكمت لما نسينا الموت ونسينا أو تناسينا أو تشاغلنا أن كل نفس ذائقة الموت، الموت بشديد أهواله وأهوال كربه وما فيه من كربات وسكرات وغصص نسيه كثير من المسلمين وتناساه، بل وكما قلت: كثير منا لا يحب أن يتحدث في مجالسه عن الموت، بعض المجالس إذا استفتحت الآية وأردت أن تذكر فيه بقول الله عز وجل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:١٩] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:٥٧] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:٤٢] قالوا: أف يا شيخ ما هذا الكلام؟!! ما تستفتح إلا بالموت! ما تتكلم إلا عن الموت! ما كأن أمامنا إلا الموت! والله أمامك الموت، الموت أمامك والموت ينتظرك، لقد أخذ ملوكاً قبلك ورؤساء وأنبياء، وأعزة ونبلاء وأجلاء، وأغنياء وفقراء، فلم تنزعج من ذكر الموت؟

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

لا بد أن تركب هذه الآلة الحدباء، ولا بد أن تغسل، ولا بد أن تكفن، ولا بد أن تدفن، ولا بد أن تترك، ولا بد أن تودع في هذه الحفرة الضيقة وفي هذا اللحد المظلم، تكره أن نحدثك عن مصيرك؟ أولست تحب من يكون صادقاً معك في تجارتك؟ ألست تحب الطبيب الذي يكون صادقاً ماهراً حاذقاً في تشخيص دائك ومرضك؟ فلماذا تكره الواعظ، أو تكره الداعي، أو تكره المذكر، أو تكره أخاك الذي يذكرك بحقيقة ما أنت مقدم عليه؟! نعم، الموت يكدر عليك أغنيتك، والموت يكدر عليك فيلمك، والموت يكدر عليك مسلسلك، والموت يكدر عليك ما يعرض في هذه القنوات الفضائية، والموت يكدر عليك ما تقبض من الحرام، والموت يكدر عليك سهرك في المعصية، والموت يكدر عليك فسادك حينما تسافر للخارج، والموت يكدر عليك كل معصية فتكره ما يكدر! والعاقل من يحب هذا الكدر من أجل أن يستفيق من تلك الغفلة، من يحب هذا الكدر في ظاهره وإن كان في حقيقته موعظة وذكرى ولكن لمن؟ لأولي الألباب، لمن ألقى السمع وهو شهيد.

أيها الأحبة! أوليس الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢] قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري ينشده شعراً، فكان مما قال:

فكم من صحيح بات للموت آمناً أتته المنايا بغتة بعدما هجع

فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتةً فراراً ولا منه بحيلة امتنع

ولا يترك الموت الغني لماله ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع

لا تكره أن تذكَّر بالموت وإن كرهت سماع اسمه، لا تكره أن تذكر بالخاتمة، لا تكره أن تذكر بالعاقبة، لا تكره أن تذكر بالنار وأنت تذكر بالوعيد، وأنت تذكر بالتخويف من الزقوم والغسلين وكل ما أعده الله لمن عصاه، لا تكره هذه الذكرى، إن الذين يبتعدون عن الأجواء الإيمانية إذا قيل لأحدهم: تعال يا رجل الأعمال، تعال يا تاجر، تعال يا غني، تعال يا كبير، تعال يا مسئول، تعال يا حبيب، تعال يا قريب بعضهم يقول: لا يا أخي، هذه مجالس، أنا أريد أن أتمتع بدنياي لا أريد أن يكدرها علي شيء.

فيبتعد عن مجالس الإيمان وأجواء الإيمان فتستحكم الغفلة مع ترك للجمع والجماعات، وتستحكم الغفلة مع إعراض عن العبادات والطاعات ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم ما الذي يحصل؟ تقع منه غفلة كالظلمات التي بعضها فوق بعض.