للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عقوبة من مات وعليه دين]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، لم يعلم سبيل خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولم يعلم سبيل شرٍ إلا حذَّر الأمة منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي سبب النجاة في الدنيا والآخرة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:٦١].

عباد الله: اعلموا أن التساهل بالحقوق وعدم الأمانة في أدائها، والمماطلة في الوفاء بها من الأمور التي شاعت وعمت كثيراً بين المسلمين الذين يعلمون وقد لا يعلمون أن هذا من الأمور التي توعد الله ورسوله من انغمس في الوقوع بها وعيداً شديداً، وكلكم يعلم -يا عباد الله! - أن دين الإسلام وشريعته الفاضلة الكاملة جاءت بالأحكام والضوابط الشرعية الدقيقة لضمان الحقوق ووصولها إلى أصحابها، وجعلت لولي الأمر حق التعزير بالجلد والحبس والعقوبة المناسبة لمن تعود أخذ أموال الناس، ولم يف بحقوقهم فيما يقابلها، بل إن شريعة الإسلام جاءت بقطع يد السارق في أقل القليل صيانةً لملكيات الأفراد وأموالهم، وحفاظاً على إشاعة الأمن والطمأنينة في أرجاء مجتمعات المسلمين، إذ بدون هذه الأحكام والضوابط والعقوبات يتساهل كثيرٌ ممن لا يرعون حق الله في أموال إخوانهم المسلمين، ومن ثم تشيع الانتقامات والثارات الشخصية وغيرها لاسترجاع أصحاب الحقوق حقوقهم من المطلة والغاصبين.

واعلموا يا عباد الله! أن التساهل بحقوق العباد خاصةً الديون من الأمور التي وردت بشأنها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين خطورة هذا الأمر وعظم جرم مرتكبه، فمن ذلك ما رواه البخاري وغيره بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وروى الطبراني بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من أستدان دَيناً وهو لا ينوي أن يؤديه فمات قال الله عز وجل له يوم القيامة: ظننت أني لا آخذ لعبدي بحقه، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الآخر، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فيجال عليه) وروى ابن ماجة بإسنادٍ حسن: (من مات وعليه درهم أو دينار قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم).

وتذكروا أن المبادرة إلى قضاء الدَّين مما يجعل العبد يصبح ويمسي قرير العين مطمئن البال، إذ إنه لا يدري هل يعود إلى بيته حياً كما دخل منه، وهل يخلع ثوبه حياً كما لبسه؟ وهل ينهض من فراشه حياً كما نام عليه؟ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:٤٢] فكيف للمسلم إذا قبضت روحه أن يخبر بأن عليه أو له دَين، فإذا كان النوم بحد ذاته موتاً لا حياة فيه إلا برد الأرواح إلى أجسادها في مضاجعها، فكيف يهدأ بال مسلم قد تحمل حقوق الخلق، واستدان أموال العباد؟! ولو أن الإنسان منا تفكر وتأمل حق التأمل والتفكر أن الموت قد يخطفه من بين أحبابه وأهله وعشيرته وهو على حالٍ قد جمع فيها من حقوق الناس نصيباً عظيماً، إن من أول ما يخطر بباله في سكرات موته، وفي آخر لحظات عمره هي ديونه التي عليه، من يقضيها؟ ومن يؤديها عنه؟ وهل تركته تكفي لقضاء ما عليه؟ أو تكفي لوفاء حقوق العباد منه؟ ومن وقع له مثل هذا فهو من البلاء والفتنة، إن لم يكن له من ماله ما يقضي به، أو يقوم بقضائه من ورثته، ثم تصوروا حال من مات على ذلك، وقد جاء في شأنه أمرٌ عظيم وخطرٌ جسيم يتبين ذلك مما يرويه الإمام أحمد بسندٍ حسن والحاكم وصححه عن جابر، قال: (توفي رجلٌ فغسلناه وكفناه وحنطناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه يا رسول الله؟ فخطا خطوةً ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملها أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ يا رسول الله! فقال: قد أوفى الله حق الغريم وبرأ منهما الميت، قال: نعم.

فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيومٍ: يا أبا قتادة! ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس يا رسول الله! قال: فعاد إليه من الغد، فقال أبو قتادة: قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلدته) وروى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالميت عليه الدَّين فيسأل هل ترك لدَينه قضاءً فإن حدث أنه ترك وفاءً صلى عليه وإلا قال: (صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي وعليه دَينٌ فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته) وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم سئل أن يصلي على مدينٍ فقال: (ما ينفعكم أن أصلي على رجلٍ روحه مرتهنة في قبره لا تصعد روحه إلى السماء، فلو ضمن رجل دَينه قمت فصليت عليه، فإن صلاتي تنفعه) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لو قتل رجلٌ في سبيل الله، ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل، وعليه دَين ما دخل الجنة حتى يقضى دَينه).

فهل بعد هذا -يا عباد الله- يجرؤ مسلمٌ على التساهل بحقوق المسلمين عنده، وهو لا يدري هل يؤديها أم هل تؤدى أم لا تؤدى عنه؟ فاتقوا الله يا عباد الله! وقوا أنفسكم ناراً بسبب حقوق العباد إن متم وهي عليكم، واتقوا الله في حقوق إخوانكم المسلمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ وتوبوا إليه؛ يرسل السماء عليكم مدراراً ويمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمى.