للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من كانت الدنيا همه شتت الله شمله]

أيها الأحبة: إقبال الدنيا ومجيئها لمن اهتم بالآخرة أمر غريب عجيب! قال ابن الجوزي: الدنيا ظل، إن أعرضت عن ظلك لحقك، وإن طلبته تقاصر دونك.

وأما من كانت الدنيا همه -كما في تتمة الحديث- (ومن كانت الدنيا همه فإن الله جل وعلا يشتت عليه ضيعته ولا يأتيه من الدنيا إلا ما قسم له) أي: من كانت الدنيا تفكيره، لأجلها يقدم خطوة، ولأجلها يتقهقر أخرى، من كانت الدنيا سبباً في قربه وبعده، وابتسامته ونطقه وصمته وكلامه، ورضاه وسخطه وحزنه ومعاتبته، فليعلم أنه يعاقب عقوبة عاجلة: أولها: تشتت الشمل، فكل ما حوله متشتت حتى ولو رآهم رأي العين بين يديه، انظر لمن حوى الدنيا بأجمعها، واسأله عن حال قربه بأهله وزوجاته وأبنائه وأولاده، تجد أولاده يتمنون الدقيقة من وقته ليقابلوه، موظفوه يقابلونه أضعاف أضعاف ما يقابله أبناؤه، وخدمه يقابلونه أضعاف أضعاف ما تقابله زوجته، والسبب في ذلك أن الدنيا باتت له هماً ومطلباً، ومغنماً، ولأجل ذلك تشتت شمله حتى وإن كان الأمر بين يديه، وزد على ذلك أن الفقر يلازمه، ولا يعني ذلك أن له صك إعسار ثبت فيه عسره أمام غرمائه، لا وألف لا، بل أرصدته تملأ البنوك، ولكن الفقر بين عينيه، لو طرق الباب سائل يريد لقمة لأعطي اليوم وحرم الغد، ولو طلب أحد جهازاً من اللهو أو شيئاً من المنكر لبذل الكثير في سبيله، تجده مغداقاً منفاقاً بذولاً في الحرام والشبهات والمكروهات، شحيحاً بخيلاً في الطيبات والصدقات، وذاك من أصناف الذين اشتغلوا بالدنيا، فشتت الله شمله وأصبح الفقر لا يفارق عينه حينما يدعى إلى خير، وإذا دعي إلى شر أو حرام بذل الأموال ولم ينس أنه يحاسب، وقد نسي أنه يحاسب على ما بذل.

نعم.

الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء، وهذا والله أمر غريب وعجيب، سمعنا ورأينا وعرفنا أصنافاً من الأثرياء إذا سئل أحدهم كفالة داعية من الدعاة، أو تجهيز غاز من الغزاة، أو كفالة يتيم من الأيتام، أو بناء مسجد من المساجد، أو دار من دور الحضانة والتعليم لأبناء المسلمين؛ أخذ يتعلل بحاجة المال وصرفه وتدويره وتشغيله في صنوف شتى، وأما إذا دعي إلى سفر في جولة لأقطار الدنيا وما فيها من مشاهد محرمة وصور مظلمة، وأحوال لا ترضي الله هان عليه الدرهم والدينار.

فذاك رجل الفقر بين عينيه حينما يدعى إلى الخير والمعروف، ويغيب الفقر عن عينيه حينما يدعى إلى الحرام {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:١٤].

أيها الأحبة في الله: اسألوا ذلك الذي اهتم بدنياه وخدمها وأتقن حساباتها ولا ينتهي عام إلا والميزانية لمؤسسته وشركته تقدم بين يديه بالهللات والأرقام، ووراء المحاسب مراجع، ووراء المراجع محاسب قانوني، ووراء القانوني مدقق لتقدم نهاية العام كشوف في غاية الدقة والعناية، هل اهتم بأعماله بنصف هذا القدر أو بثلث هذا القدر، أو بربع هذا القدر؟ لا والله، وذلك من الحرمان.

واسأل ذلك الثري الذي أشغلته دنياه عن آخرته: كم لك من دنياك؟ هل تلبس كل ثيابك التي في خزينة ملابسك؟ ليس لك إلا ما يغطي ظهرك، وليس لك من مخازن الأطعمة إلا لقيمات تشبع بطنك، وليس لك من أنهار المياه وبحارها إلا جرعة تملأ جوفك، وليس لك من ملاذ النساء إلا فراشاً في دقائق معدودة بلذة فانية يعقبها التعب وانكسار القوة، الذين جمعوا الأموال هل تلذذوا بلذات مئات الرجال في آن واحد، وهل أكلوا مقدار ما يأكله مئات الرجال في آن واحد، أو شربوا ولبسوا بقدر ما يشربه ويلبسه مئات الرجال في آن واحد، لا وألف لا.

ملك كسرى عنه تغني كسرة وعن البحر اجتزاء بالوشل

القليل ربما أغنى وكفى عن الكثير، وصدق صلى الله عليه وسلم: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) الثري الذي دنياه لدينه وآخرته وإخوانه والمسلمين؛ قاصداً بذلك مرضاة رب العالمين، فنعم المال له! اللهم فزد له وبارك له.

أما الثري الذي أشغلته دنياه عن آخرته، وإن الأثرياء لهم إيمان بالغيب عجيب في شأن الأرصدة، يوقع الثري صفقة بخمسمائة مليون أو بمليار أو بمائة مليون، ويقبل أرقاماً وأصفاراً على ورق، لكنه ما رأى المليار وما رأى الملايين مجتمعة، رأى أرقاماً ووقع على وثيقة فآمن تمام الإيمان أنه يملك المليار، ولو قيل له: تصدق بحائطك، تصدق ببستانك، تصدق بشيء من ثروتك، واعلم أن لك في الجنة أضعافها لتردد يمنة ويسرة، وفكر وقدر، ثم هلك كيف قدر، يؤمنون بالغيب في أرقام حول أرصدة من الدنيا، وأما الإيمان بالغيب فيما أعد الله من نعيم الآخرة فإن الكثير منهم في ضعف وتردد وشك وريب، أين هو من ذلك الصحابي الذي تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، يوم أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: (لك بها سبعون ناقة مخطومة في الجنة) فأخذ يهلل ويكبر، كأنه يرى نوقه في الجنة، كأنه يسوق أذواده في الجنة، كأنه يحتلب ويدور حول نوقه في الجنة، إيمان بغيب.

وهذا صهيب الرومي لما لحقت به قريش، قالوا: جئت صعلوكاً فقيراً فآويناك وأغنيناك، أو بعد ما قويت واغتنيت تهاجر بمالك؟ والله لا ندعك، فقال: [وإن تركت لكم المال؟ قالوا: نخلي عنك، فوصف مكان ماله لهم وفر مهاجراً إلى الله] وما يغني قليل وحفنة ومتاع من الدنيا أمام الهجرة إلى الله ورسوله، إن الهجرة إلى الله ورسوله لهي أضعاف أضعاف لا يمكن أن تقاس، وكما قال صلى الله عليه وسلم -كما ذكره الإمام مسلم في كتاب وصف الجنة-: (مثل هذه الدنيا في الآخرة كمثل ما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع) إن الدنيا قطرة من الماء علقت بسبابتك وأما الآخرة فهي البحار في الدنيا مجتمعة، فمن ذا يبيع بحراً بقطرة، ومن ذا يبيع محيطاً برشفة، ومن ذا يبيع أنهاراً عذبة زلالاً بقربة، إن ذلك هو الخسران المبين.

أيها الأحبة: إن من كانت الدنيا همه فإن الدنيا تدبر عنه ولو جمع الله حوله أرقاماً وضِيَاعاً ومراكب وقصوراً؛ لكنه لا يتلذذ بها، حدثني شاب كان سابقاً يعمل مديراً للإدارة الإقليمية في بنك من البنوك الربوية، وجاء رجل من كبار السن من أهل الودائع الربوية، قال: فجاء الرجل متعكزاً على عصاه وواحدة من ودائعه بالدولار -ستون مليون دولار- قال: فجاء ونفسه مضطرب قد علت أنفاسه وخارت قواه، فقال: يا ولدي كم بلغت الفوائد على الوديعة؟ قال فقلت له: يا والد! يا شيخ! ألك حاجة في السؤال عن فوائد الوديعة وأنت ترى ما أنت فيه من ضعف الصحة وإدبار العافية، وانقطاع النفس والحرمان من كثير من اللذة؟ قال فانقلب إلي قائلاً: وهل عينوك في المكتب واعظاً أو مديراً؟ قال فما لبثت أن سمعت عنه أن انقطع للعلاج في المستشفى على سرير قد لزمه شهرين كاملين قال: فجاء بعد خروجه من المستشفى وقد وضع له جهاز ينظم ضربات قلبه -ما عاد قلبه يسعف نفسه وحاله- ثم جاء مرة أخرى على عكازه وقال: كم بلغت الوديعة؟! أليس ذلك من تشتت الشمل، أليس ذلك من الفقر، أليس ذلك من المحق؟ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:٢٧٦] يمحق الله الربا والمرابي في صحته وفي بدنه وفي عافيته وفي أهله، أولاده حوله لا يتمتعون بالجلوس معه، والدنيا بمتاعها ولذاتها حوله، أما الحلو منها فسكره يمنعه من تناوله، وأما المالح فضغطه يمنعه، وأما الدسم والدهن فضيق شرايينه يمنعه، إن ذلك لمن صور تشتت الشمل، لا يعني تشتت الشمل حالة واحدة فقط، بل ربما رأيت في ظاهر الأمر أن الدنيا اجتمعت لمن اهتم بها وخدمها، ولكنها في الحقيقة بين عينيه ولا يمس منها شيئاً بين يديه، ولا يدخل جوفه منها شيئاً، الدنيا حوله ولا يستمتع بقليل منها.

ومن تأمل -أيها الأحبة- حال أولئك وجد أنهم كالذي يجلس على شاطئ بحر مالح فكلما ازداد شرباً من البحر الذي لا ينفد ازداد عطشاً فعاد مرة أخرى شارباً، تخيل رجلاً قد بلغ به العطش مبلغاً، وقد نصب خيمته بجوار البحر كلما شرب ليروي ظمأه إذا به يزداد عطشاً، والبحر لن ينتهي بشرب ذلك العطشان، والشرب من الماء المالح لن يروي ظمأ ذلك الصديان.

أيها الأحبة: من تأمل حال الفريقين -من كانت الدنيا همه ومن كانت الآخرة همه- وجد أن الفرق بينهما عجيب، وعجب في هذه الدنيا! كلما سعيت في طلبها كلما أدبرت عنك وهربت.

أيها الأحبة: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [هم الدنيا ظلمة في القلب، وهم الآخرة نور في القلب] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.