للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تزود من دار الموت لدار الحياة]

يا أيها الشاب! عد إلى الله قبل أن تأتيك سكرة الموت وأنت على غفلة، فكم من شاب حضرته المنية وهو في حضن باغية، وكم من شاب مات وهو سكير بخمرة، وكم من شاب مات وهو أمام الحرام، وكم من شاب مات في سفر إلى حرام، وكم من شاب مات وهو عائد من سفر حرام، وكم من شاب مات وهو يجمع الربا ويأكل الرشا ويجمع الأموال بالحرام، فعد إلى الله جل وعلا قبل نهاية الرحلة، وقبل أن تأتيك سكرة الموت ذلك الذي أنت تخافه وتحيد منه، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه.

فكيف ووراءهم يوم يعدم فيه الجواب، وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكُتّاب.

وقال ابن السماك رحمه الله: إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوت، فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها ودخلوا داراً لم يتزودوا لها.

فأية ساعة مرت على ما مضى، وأية ساعة بقيت علينا، والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان ويهجر الخلان ويدع ما عز وهان.

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا

أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً وتُلحق أُخرانا بأولانا

في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا

يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً

أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا

وهذا مصيرنا يا معاشر الغافلين! والقبور بيوتنا بعد الترف واللين، والقيامة تجمعنا وسوف تنصب الموازين والأهوال العظيمة فأين المتفكر الحزين، إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:٨٨ - ٩٤].

ولما حضرت الوفاة محمد بن سيرين بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.

يا أيها الناس! يا أيها الشباب خاصة! إن إلى ربكم الرجعى، إنكم إلى ربكم ترجعون، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:٥٧] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:١٥] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:٤٠] قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسير قولك هذا؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال الرجل: ما هي؟ قال الفضيل: تحسن فيما بقي يغفر لك فيما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي وفي والنهاية: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:١٧ - ١٨].

إن الذين يُبشرون، وإن الذين يستجيبون، والذين ينزجرون وللحق يرعون ويتبعون، أولئك طائفة من البشر.

إن جميع الدواب ساجدة، والشمس والقمر ساجدة، والنجوم ساجدة، والجبال ساجدة، وإن كل ما خلق الله متبع لأمر الله، خاضع لأمر الله، إلا البشر ففيهم من يطيع وفيهم من يعصي، فعليكم أن تكونوا من أهل الطاعة، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ} [الحج:١٨] كلها بلا استثناء، مستجيبة ساجدة {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:١٨] ولم يقل كل الناس يستجيبون {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:١٨] دلالة على أن أكثر الناس لا يستجيبون فكونوا من المستجيبين، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:١٨].

أسأل الله عز وجل أن يجعل ما أقوله عبرة وعظة لي ولكم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيه حظاً ولا نصيباً.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأله سبحانه أن يُحَرِّمَنا وإياكم على النار، وأن يجزيكم خير الجزاء، وأن يثبتنا وإياكم على طاعة رب العالمين.