للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عِظَمُ منزلة الأم في الطاعة

اعلموا أن للأم النصيب الأوفى والدرجة العظمى في مقام البر وحسن الصلة، ففي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.

قال: ثم من؟ قال: أمك.

قال: ثم من؟ قال: أمك.

قال ثم من؟ قال: أبوك) ولا عجب أن تنال الأم هذا النصيب من البر والصلة ولها حق كبير وكثير، وما نقدمه لها يسير، وقيل بالنسبة لما قدمته لنا:

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير

وتفديك مما تشتكيه بنفسها فمن ثديها شرب لديك نمير

وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنواً وإشفاقاً وأنت صغير

فآه لذي عقل ويتبع الهوى وآه لأعمى القلب وهو بصير

فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير

وذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع امرأته إلى القاضي في غلامها منه، أيهما أحق بحضانته، فقالت المرأة: أنا أحق به؛ لأنني حملته تسعة أشهر ثم وضعته ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني كما ترى، فقال أبو الأسود: أيها القاضي: حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه؛ فلي الحق كله أو جله، قال القاضي: أجيبي أيتها المرأة، قالت: لئن حمله خفاً فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرهاً، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها ودعني من سجعك.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: (يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري لها حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أن ينزعه مني بعد أن طلقني، فقال: أنتِ أحق به ما لم تنكحي) أي: ما لم تتزوجي، رواه أحمد وأبو داود.

يقول الإمام القرطبي: إن من الإحسان للوالدين والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما، وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: أحي والداك؟ قال: نعم.

قال: ففيهما فجاهد) رواه مسلم.

وروى البخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال صلى الله عليه وسلم: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما).

ولا شك أن بكاء الوالدين لما يجره الولد لهما من العقوق كما جاء ذلك في الحديث، ومن الحديث الذي سبق ينبغي لمن أبكى والديه أو أغضبهما أن يتوب إلى الله، وأن يسعى جاهداً لإرضائهما، وأن يسعى جاهداً لأن يرضيا عنه، ولرد الابتسامة إلى وجوههما بفعل يرون منه ندمه وأسفه على ما فرط في حقهما، وذلك بهدية تليق بمقامهما، والدعاء لهما، والتلفظ واللباقة في معاملتهما.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.