للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة: اعلموا أن المؤمن كما أن خوفه من الله عظيم فله رجاء بالله كبير، فالرجاء والخوف جناحان يطير بهما -عباد الله- إلى منازل الخلود والنعيم في الآخرة، والرجاء هو اطمئنان وراحة في انتظار ما يحبه العبد ويشتاق إليه مع قيام العبد بتحصيل أسبابه، والمعنى: أن المؤمن يرجو النعيم في قبره والأمن في محشره، والجنة داراً مقيماً له برحمة ربه، مع بذله أسباب الفوز والفلاح وفعل ما يرضي الله وتجنب ما يسخطه؛ لأن الرجاء مرتبط بالعمل، أما الرجاء الذي لا يصحبه عمل صالح ولا يقترن به عبادة مخلصة فهو تمنٍ مجرد، وما ظنكم معاشر المؤمنين برجل يقول: أرجو أن يوهب لي ولد صالح ولم يتزوج، أو يقول: أرجو أن تنبت هذه الأرض عنباً ورماناً وهو لم يحرثها ولم يبذرها ولم يبذل أي سبب في إصلاحها، فلا شك أنكم تقولون: هذا مجنون لا عقل له.

إذاً: فما تقولون في رجالٍ لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، غافلون عن ذكر بهم وعبادة خالقهم، في ملهاة الغناء والطرب والمعاصي واللهو، منشغلون بذلك عن كل خير ومعروف، مجترءون بذلك على حدود الله ومحرماته، ثم إذا كلمهم واحد منكم وقال لأحدهم: أي عمل قدمت بين يديك؟ فرد عليه قائلاً: إني أرجو الجنة وأرجو رحمة ربي، وهو مصر على المعصية مقيم على الفاحشة، فهل يسمى قوله هذا رجاءً؟ لا والله، بل هذا هو التمني رأس أموال المفاليس الذي يصدر من العاجزين، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، ورحم الله القائل:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس

وعلى ذلك فالرجاء الصادق ينطبق على انتظار الجزاء والثواب بعد تمهيد أسبابه المرتبطة بفعل الطاعة وتجنب المعصية، وبعد ذلك ينتظر العبد التوفيق والهداية والقبول من الله سبحانه وتعالى، لقد ذم الله جل شأنه أقواماً هذا شأنهم، أقواماً يرجون بلا عمل فقال سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:١٦٩] وقال سبحانه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف:٣٥ - ٣٦].

وتأملوا قول الله جل شأنه في وصف عباده الراجين رحمته بصدق: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:٢١٨] فجعل الرجاء بعد الإيمان وبعد الهجرة والجهاد.

واعلموا -يا عباد الله- أن الرجاء محمود ومطلوب من العبد؛ بأنه باعث على العمل ومعين على تحسينه، بخلاف اليأس الذي هو مذموم وصارف عن العمل.

عباد الله! ينبغي لكل مسلم أن يحسن العمل والرجاء والظن، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي -وفي رواية- فليظن بي ما شاء) وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).