للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القبر مسكنٌ لكل حي

أيها الأحبة: ما دام من قبلنا قد مضوا وكانوا أشد منا: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:١٠] إن أمماً سبقتنا ومضت قبلنا كانت هي أقوى وأغنى منا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:١٣] أيستعصي على الله شيء؟ أيقف في وجه الله شيء؟ أيعترض قدر الله شيء؟ أيصد أمر الله شيء؟ إن أمر الله ماضٍ لا محالة.

فهذا أيها الأحبة! أمرٌ ونداءٌ واستعداد لهذا الرحيل، فقد مضى قبلنا الأثرياء والملوك والرؤساء، والكبراء والأمراء والوزراء، والفقراء والصعاليك والمساكين، فانتهوا إلى تلك الدار، لا يستوي في شأن القبر واللحد:

إن حله داهيةٌ أو أبلهٌ أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبع

فكل يرد على هذا القبر، وحينئذٍ يتساوى الملوك والعامة، ويتساوى الفقراء والأغنياء، والصعاليك والأثرياء، كلهم تحت الثرى، وكلهم في اللحود، وكلهم ينخرهم الدود إلا من أذن له الله برحمةٍ وعنايةٍ وحفظٍ وكرامةٍ تعجل له كرامته في البرزخ لينظر بعدها إلى كرامةٍ أعز وأعظم من ذلك.

أليس الأغنياء لا يأذنون بدخول أحدٍ عليهم إلا بحجُاب وبواب، فأين هم من القطط والكلاب ربضت على قبورهم وبالت على لحودهم دون حاجبٍ ولا مستأذن، ما الذي صيَّر حالهم إلى ذلك؟ إنه الرحيل، إنه الزوال، إنه الفناء، فمن عاش في هذه الدنيا وهو ينظر أنه سيستمر في هذا الضوء ناسياً أن اللحد المظلم ينتظره، فذاك جاهلٌ أحمق، ومن عاش في الدنيا يظن أنه سيتقلب دائماً في السعة ناسياً ضيق القبر، فذاك جاهلٌ أو متجاهل، ومن مضى في هذه الدنيا مستأنساً بهذا الأنس ظاناً أن ذلك سيدوم عليه، ناسياً وحشة القبر وخلوته وانفراده، ناسياً أول ليلةٍ في القبر، وأول وحشةٍ يجدها، وأول ترابٍ يهال على وجهه، وأول حجرٍ يسقط على صدره وبطنه، والناس يحثون عليه الترب في لحده، فذاك غافل.

إذا أردت أن تعصي الله فاذكر ذلك الموقف، وتذكر الرحيل، وإذا أردت أن تقعد عن الصلاة مع الجماعة، فاذكر ذلك الموقف وتذكر الرحيل، وإذا زينت لك نفسك أن تمنع الزكاة فتذكر الرحيل، وإذا دعتك شهوتك إلى الوقوع في الزنا فتذكر الرحيل، وإذا دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى المتاجرة بالربا فتذكر الرحيل، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) الموت الموت يا عباد الله! ما ذكر في قليلٍ إلا كثره، ولا في كثيرٍ إلا قلله، ولا في بعيدٍ إلا قربه، ولا في قريبٍ إلا بعده، ولا في حبيبٍ إلا فرقه، ولا في لذيذٍ إلا جعله مراً، لا بد أن نتذكر هذا الأمر؛ لأننا قادمون عليه.

إن طائفةً من الناس إذا حدثتهم عن الرحيل، قالوا: ما أسوأ حديثك، ما أشأم حديثك! لا تكلمنا إلا عن المقابر وعن الموت وعن الرحيل، وعن الدود وعن اللحود، هلا حدَّثتنا باللذة؟ هلا حدَّثتنا بالبقاء؟ هلا حدَّثتنا بالأنس؟ صديقك من صدَقك لا من صدَّقك، ولأن تصحب من يخوفك حتى تبلغ مأمنك خيرٌ من أن تصحب من يؤمنك حتى يجعلك في دار المخافة، فلا بد من الرحيل أيها الأحبة.

إننا نفجع بأحبابنا وسنفجع يوماً من الأيام بأنفسنا، ستحمل على نعشٍ والناس يتحدثون وأنت محمولٌ على هذا النعش، فحدث نفسك الآن ماذا تقول لك نفسك والغاسل يغسلك؟ وماذا تقول لك نفسك والغاسل يكفنك؟ ماذا تقول نفسك إذا قدموك في المحراب يصلون عليك؟ ماذا تقول لك نفسك والناس يحملونك على أكتافهم؟ ماذا تقول نفسك وقد دخلت بوابة المقبرة؟ ماذا تقول نفسك وقد أسندوك يبحثون عن قبرٍ مناسبٍ لطولك وعرضك؟ ماذا تقول لنفسك إذا سَلوك في القبر سلاً؟ ماذا تقول لك نفسك إذا أهيل عليك التراب، وأخذوا يحثونه حثواً؟