للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأحاديث الواردة في فضل الجهاد في سبيل الله]

أيها الأحبة! وأما الكلام في الجهاد والرباط والشهادة فشأنه عجيب، حينما تريد أن تستقصي الأحاديث الواردة في الجهاد والرباط والشهادة، وما يتعلق بأحكام الجهاد، تجد أن هذه الأبواب والمواضيع قد نالت حظاً عظيماً وافراً من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد النصوص القرآنية، والكلام أيضاً في الجهاد ليس كلاماً بدلالات الاستنباط، أو بدلالات مفاهيم المخالفة أو الموافقة وإنما بأصرح الدلالات ألا وهي دلالة النص.

أي: النص الذي يأتي من عند الله جل وعلا في كتابه ومن عند رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته فإنك ترى في هذا دلالةً واضحةً لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو تأويل إلا شيئاً من ذلك يفهمه أهل العلم.

ونشرع الآن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الجهاد: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة -أي: قدر ما بين حلبتي الناقة من الوقت- فقد وجبت له الجنة).

وهذا من عظيم الفضائل بإذن الله جل وعلا، ومن تأمل حال الجهاد وجد أنه أعظم أنواع العبادة ولأجل ذلك فإن ابن المبارك رحمه الله أرسل إلى الفضيل بن عياض وكان منقطعاً للعبادة في البيت الحرام، قال له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا، أي: في المعارك والقتال، وصهيل الخيل، وصليل السيوف.

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تعلب

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يُتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الكريهة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب

لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نارٍ تلهب

ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذب

في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقةٍ مخطومة، فقال: يا رسول الله! هذه الناقة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) رواه الإمام مسلم.

وعن أبي سعيدٍ الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعث إلى بني لحيان، ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعدين: أيكم خلف الخارج في أهله فله مثل أجره) رواه الإمام مسلم.

وعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلف غازياً في أهله بخيرٍ وأنفق على أهله فله مثل أجره) رواه الطبراني بإسنادٍ صحيح.

وحسبكم أن الغدوة إلى الجهاد في سبيل الله جل وعلا، أن للإنسان به أجراً عظيماً بإذن الله جل وعلا، قال تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:١٢١].

عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (رباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها) رواه البخاري ومسلم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لغدوةٌ في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيده -يعني: موضع سوطه- خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة طلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، وإن نصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها) رواه البخاري ومسلم.

فهذه الدنيا خيرٌ منها غدوةٌ في سبيل الله، وخيرٌ منها موضع سوط أحدنا في الجنة، وخيرٌ منها روحةٌ في سبيل الله جل وعلا، فلماذا نقدم الدنيا على الآخرة وهذه الدنيا ما متاعها في الآخرة إلا قليل؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي، وإيمانٌ وتصديقٌ برسلي، أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة) رواه البخاري ومسلم.

واعجبوا أيها الأحبة! لشأن المجاهدين الذين ودعوا الدنيا وطلقوها، وتفرغوا لأمر الآخرة بحالٍ عجيبة، أتعلمون أول زمرةٍ تدخل الجنة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول زمرةٍ تدخل الجنة من أمتي أتعلمونها؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، فيستفتحون -أي: يطلبون فتح باب الجنة- فيقول لهم الخزنة: أو حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيءٍ نحاسب وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟! قال: فيفتح لهم، فيقيلون في الجنة أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.

وجاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: (دلني على عملٍ يعدل الجهاد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لا أجده، ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تُفطر؟ قال: من يستطيع ذلك؟!) -ومعنى ذلك: أن الجهاد لا يعدله شيء- رواه البخاري.

عن البراء قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ثم تقدم فقاتل حتى قُتل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عمل يسيراً وأجر كثيراً) رواه الإمام مسلم.

فحسبنا أن فضائل الشهادة عظيمة إلى درجة أن من لم تكن له حسنة أبداً، وسيرته فيما مضى كلها كفرٌ وعدوانٌ وإنكارٌ وشركٌ، أن أول عملٍ عمله بعد أن نطق الشهادتين أنه جاهد في سبيل الله؛ فاعتُبِر عَمَلُه هذا خيراً كثيراً بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي الحديث عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس قال: (سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف، فقام رجلٌ رث الهيئة، قال: يا أبا موسى! أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتل رضي الله عنه) رواه الإمام مسلم.

وحسبكم أن الله جل وعلا يقول في محكم كتابه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:١٩] وجاء في سبب نزول هذه الآية ما حدث به النعمان بن بشيرٍ قال: (كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في يوم جمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، فلما استفتاه أنزل الله قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:١٩]) رواه الإمام مسلم.

هذه أيها الأحبة! فضائل الجهاد في سبيل الله، وهذه كرامات المجاهدين في سبيل الله، فهل حدثنا النفوس بالجهاد؟ هل حدثنا النفوس بصدق بالجهاد في سبيل الله جل وعلا؟ حتى الجهاد بالمال؛ أن نخلف الغزاة والمجاهدين في ذويهم وأهلهم بخير، الكثير من المسلمين قد فرط وتساهل وبخل بهذا، حتى كفالة أيتام المجاهدين الكثير من المسلمين قد فرط في هذا وبخل به.

ووالله إن من أقل القليل وأدنى الواجب، إذا كان لك أربعة أولاد أن يكون خامسهم من أيتام المجاهدين، وإذا كان لك سبعة أولاد أن يكون ثامنهم من أيتام المجاهدين، حتى تنال أقل المراتب، أن تخلف مجاهداً في أهله بخيرٍ وفي ذريته بخيرٍ.

والجراح في الجهاد هو أيضاً من فضائل آثار الجهاد، لأن الجهاد لا يمكن أن يكون وروداً ورياحين وكرامات كما يظن البعض منذ أن ينزل الجبهة وساحة القتال الكرامات تتناثر، لا، حتى لو لم تر كرامةً واحدة، يكفيك كرامةً أن الله أعانك وثبتك وأيدك حتى انطلقت لقتال أعداء المسلمين، والدفاع عن أعراض المؤمنين، والذود عن حرمات المسلمين وأملاكهم ومقدراتهم، فإن في هذا جهاداً عظيماً بإذن الله جل وعلا.

روى الإمام مسلم والإمام أحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يُكلم أحدٌ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، اللون لون الدم والريح ريح المسك) وروى الشيخان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبدٍ يموت له عند الله خيرٌ فيسره أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد في سبيل الله؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى).

وهذا يذكرنا بقصة عبد الله بن حذافة السهمي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما أسره الروم ففاو