للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كفران النعم]

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وحده لا شريك له على نعمه التي لا تحصى وعلى آلائه التي لا تنسى، أحمده سبحانه حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، فهو سبحانه أهل الثناء والمجد، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وصفيه من خلقه الداعي بدعوته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم العرض الأكبر على الله، يوم تنظر كل نفس ما قدمت، يوم تتغابن النفوس فيما أسلفت.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي سبيل النجاة في هذه الدنيا، وهي سبيل الأمن في دار البرزخ، وهي سبيل الفوز والفلاح في الآخرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين: خلق الله هذه الخليقة بصغير ما فيها وجليل ما عليها لحكمة بالغة وهو العليم الحكيم، تعالى الله أن يخلق عبثاً، وخلق هذا الإنسان وأودع فيه من دقيق صنعه ومن جميل خلقه ما عجزت عنه أولو الألباب وصفاً، وعجزت عنه أولو العقول إدراكاً، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤].

عباد الله: أودع الله في هذا الإنسان نعماً عظيمة وأسراراً جليلة، في سمعه وفي بصره، وفي عقله، وفي فرجه وأجهزته وحواسه، ولكن كثيراً من الناس في هذا الزمان كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يعرفون حكماً جليلة لأجلها خلقوا، وتطاول بعضهم وانساق وراءه من تطاول ورددوا بمسمع من الملأ:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أو أبيت

كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري؟

ولماذا لست أدري

لست أدري

كلمات ملؤها الإلحاد والاعتراض والجهالة: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٧ - ٧٩].

عباد الله! هذا الإنسان وهذا المخلوق إذا لم يرع نعمة ربه عليه، ويدرك سر وجوده، ويعرف الحكمة من دبيبه على الأرض فإنه ينقلب مصيبة ودماراً، وهلاكاً وفتكاً في نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته.

عباد الله! هذه النفس الإنسانية عجيبة كل العجب، هذه النفس الإنسانية هي مدار كثير من الخلق والأسرار والإبداع والتكوين: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت:٥٣] في الأفلاك، وفي النجوم، وفي المجرات، وفي السموات، وفي هذه البحار السماوية المتلاطمة بالنجوم المسخرة: {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:٥٣] في هذه النفس الإنسانية؛ لأن فيها من الآيات والإبداع والعبر ما جهله كثير من الناس، واستخدموه لغير ما أوجده الله وخلقه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨].

أيها الأحبة في الله: في هذا العالم المتلاطم من بحار حكمة الله في خلق هذا الإنسان نقف وقفة متأملة في نعمة الصحة ونعمة العافية، يقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) وشاهدنا: (اغتنم صحتك قبل سقمك).

أيها الأحبة في الله: هذه العيون التي تبصرون بها، وهذه الآذان التي تسمعون بها، وهذه الأيدي التي تبطشون بها، وهذه الأقدام التي تمشون بها، كم لله فيها من عرق ساكن لو تحرك ما تلذذتم بعيش، وكم لله فيها من عرق متحرك لو سكن ما وجدتم لذة طعام ولا شراب ولا منام ولا نكاح.

أيها الأحبة في الله: نعم الإله على العباد كثيرة، نصبح في نعمة ونمسي في مثلها، نصبح في شبع ونمسي في ري، نصبح نرفل في ثياب ونمسي في غيرها، نتقلب في ألوان من الحلل والنعم والمراكب والمساكن والمفارش وقد نسينا نعمة الله علينا فيها، وقل من عباد الله من يصبح ذاكراً لله أو يمسي شاكراً لله، أو يؤدي حق الله فيما أنعم عليه من هذه النعم وهذه الآلاء، يركبون حديداً سخر لهم يتعطف بهم يميناً ويساراً، حيثما شاءوا ولأي جهة أرادوا، وإذا ركبوا لا يقولون: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.

يصعد عشرة أدوار أو عشرين دوراً من البنايات الشاهقة، فإذا ركب مصعداً يستحيي أو يتجاهل أن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، من الذي يشكر؟ من الذي يذكر؟ أتذكر الملوك، أيذكر الأثرياء، أيذكر العظماء؟ لا والله، لا يذكرون قبل الله ولا يذكرون إلا بفضل الله عليهم وعلينا، ونحن جميعاً عباد لله جل وعلا، اذكروا الله في كل ذهاب وإياب، في كل مجيء ونزول وارتحال، اذكروا نعمة الله عليكم يا عباد الله.

أيها الأحبة: وفي هذا الجو المتزاحم من هذه النعم والأمن والطمأنينة ينسى كثير من الناس نعمة ربه، فيدخل بيته على أنغام العزف والطرب والموسيقى والغناء، ويخرج منه على صور النساء المتبرجات في الشاشات والأفلام، ويركب سيارته على دنين وطنين المعازف والآلات الموسيقية، وينزل منها لا يذكر حمداً لله على سلامته ووصوله، إلى أي حد بلغت قسوة هذه القلوب؟!