للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خوف الرعيل الأول وخشيتهم وخضوعهم لله]

أما الفرق الآخر بيننا وبين ذلك الجيل -يا عباد الله- أن فيهم من الخشية، والخوف، وفيهم من الرهبة، والخضوع والإنابة لله ما ليس عندنا، وليس فينا إلا من رحم الله من عباده وقليل ما هم.

أيها الأحبة: ترى الواحد منهم يعلم ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم له أنه من أهل الجنة فلا يغره ذلك، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (فانطلق بي ملكان، ورأيت الجنة ورأيت قصراً أبيض، وعند القصر جارية حسناء، فقلت: لمن هذا القصر؟، فقال الملكان: هذا قصرٌ لواحدٍ من أمتك، فقلت: من هو؟، قالوا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: فتذكرت غيرة أخي عمر، فانصرفت، أو فصرفت وجهي، فقال عمر وهو يسمع ذلك وهو يبكي، ويغطي وجهه وله خنين: أو منك أغار يا رسول الله؟) يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وأنه رأى قصره في الجنة، ورأى جاريته في الجنة.

والآخر بلال عبد حبشي مفلفل الرأس، لكن الإيمان جعله سيد السادة، يقول صلى الله عليه وسلم: (سمعت دف نعليك في الجنة).

أبو بكر خيرهم وأسبقهم، يقول صلى الله عليه وسلم له لما قال أبو بكر: (يا رسول الله! ما أجمل قول الله عز وجل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] ما أحسن من يقال له هذا! فيقول صلى الله عليه وسلم: وإنك يا - أبا بكر - ممن يقال له هذا) وينزل فيه قول الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:١٧ - ٢١] يقسم الله أن سيرضي أبا بكر، والله لو أقسم علينا ملكٌ، أو ثريٌ، أو أميرٌ، وقال لواحد منا: والله لأرضينك، والله لأرضينك، والله لأرضينك، لامتلأت النفس بكل الأحلام والآمال، فما بالك -ولله المثل الأعلى- بأن الله يقسم أنه سيرضي أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه.

الواحد يمشي على الدنيا وهو مبشرٌ بالجنة، جلس صلى الله عليه وسلم في حائطٍ، ووقف أحد الصحابة جاعلاً من نفسه حارساً له، قال: (لن يدخل اليوم على رسول الله أحدٌ ألا استأذنت له، فجاء أبو بكر ورسول الله في الحائط وقد دلا رجليه في البئر، فقال: أريد أن أدخل، فقال: انتظر حتى أستأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن، قال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر، وقال الحارس: يا رسول الله! هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان، فقال الحارس: يا رسول الله! هذا عثمان يستأن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه).

وكان صلى الله عليه وسلم ذات يوم على جبل أحد ومعه عمار بن ياسر وعلي بن أبي طالب، فارتجف الجبل واهتز، فقال صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، اثبت أحد، فإنما عليك نبيٌ وصديقٌ-أي: أبا بكر - وشهيدان) يبشرون بالجنة وهم يمشون على وجه الأرض، فهل جرهم ذلك إلى الغرور؟ هل اتكلوا على البشارة وتركوا العمل؟ هل اتكلوا على ما بشروا به من أنهم سيلقون الجنة؟ لا.

وألف لا.

فأول المبشرين أبو بكر كان يبكي ويقول: [يا ليتني ألقى الله كفافاً لا لي ولا علي] من شدة الخوف والقدوم على الله عز وجل.

وكان عمر بن الخطاب بعد أن طعنه ذاك العلج الكافر قد وضع عبد الله بن عمر رأس والده على فخذه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [يا عبد الله بن عمر! ضع رأس عمر على الأرض، ويلٌ لـ عمر، ويلٌ لـ عمر، ويلٌ لـ عمر إن لم يرحمه ربه].

وهذا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وقد تسور عليه داره، وذبح في بيته، وتسلط عليه، وفعل به ما فعل، ما كان دأبه في الليل والنهار إلا أنه كان يتلو القرآن قائماً قانتاً ساجداً، ومات وقد تحدر دمه على المصحف رضي الله عنه.

قرأ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه هذه الآية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] فقال ابن عباس: [ذاك والله عثمان بن عفان].

انظروا الفرق بيننا وبينهم، الواحد يبشر بالجنة فما يزيده ذلك من الله إلا خوفاً، وما يزيده في صلاته إلا خشوعاً، وما يزيده في ماله إلا بذلاً وإنفاقاً، وما يزيده بروحه إلا تضحيةً وإقداماً، وما يزيده في الجهاد إلا بسالةً وتضحيةً، وما يزيده في الخلق إلا نفعاً ومعونةً، مع أن الواحد قد بشر بالجنة، والواحد منا إذا نال أدنى مرتبة اغتر بها، أو غره ثناء العوام عليه، أو غره ثناء الناس عليه، أو غره حديث الناس عنه، أو غره جاهلٌ بحقيقته يقبل رأسه أو كتفه أو يده.

نعم يا عباد الله: إن من الناس من يغتر بنفسه عند أدنى صورة من صور الإكرام له، والواجب ألا يغتر أحدٌ بنفسه، وكما قال ابن الجوزي رحمه الله: يا ناقص العقل! إن الناس إن أعجبوا بك، فإنما أعجبهم جميل ستر الله عليك، وهكذا كان دأب السلف، والصالحين من بعدهم، وجاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن كان فيها ما كان من الذين قبله، فلما حضرته الوفاة، قيل: يا عمر بن عبد العزيز! هلا أوصيت أن ندفنك بجوار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وجوار أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك؟ فبكى عمر بن عبد العزيز، وقال: والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أهون عليَّ من أن ألقى الله وأنا أظن أنني أهلٌ لهذه المنزلة، والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أهون عليَّ من أن ألقى الله وأنا أظن أنني أهلٌ أو كفؤ أن أدفن بجوار عمر، أو أبي بكر، أو بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن عمر ليس أهلاً أن ينال رحمتك، ولكن رحمتك أهلٌ أن تنال عمر.

انظروا يا عباد الله! إلى هذه النفس العظيمة البالغة في الخضوع والانقياد والإخبات لله عز وجل، ما كان الواحد يدعي لنفسه، أو يعجب بنفسه، أو يمن بعمله، فيستكثر على ربه.

كان ابن تيمية رحمه الله إذا فتح عليه ما فتح من العلم وهو الذي جاهد وبذل ودعا واحتسب وعلم، وحسبكم أنه مات سنة (٧٢٠هـ) إلى يومنا هذا، ولا يكاد يخلو يومٌ إلا وطالب علمٍ يقلب كتبه، وينهل من معينه، ويرد موارده، ويترحم عليه، كان ابن تيمية رحمه الله إذا فتح عليه ما فتح من علمٍ، أو دعوةٍ، أو جهادٍ، كان يقول: ليس مني، وليس بي، وليس إليَّ، وليس عليَّ

أنا المكدي وابن المكدي وكذاك كان أبي وجدي

ما كان يعتد بنفسه أو يقول: إنما أوتيته على علم، أو يقول: أنا لها كما يقوله بعضهم في هذا الزمان، وكان القحطاني العالم العابد الورع الزاهد الفقيه الأصولي يقول:

والله لو علموا بقبح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني

أتدرون ما سريرتهم؟ قيام الليل، وصيام النهار، وصدقةٌ بالأيمان لا تعلم عنها الشمائل، ودموعٌ تفيض في خلوات بينهم وبين الله، وقلوبٌ معلقة بالمساجد، وإعراضٌ عن الدنيا، وتعلقٌ بالعبادة، هكذا كانت سريرتهم، ومع ذلك يظهرون أن ليس لهم شيء، ولا يفتخرون أو يفاخرون أو يكابرون، وقال الآخر:

إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني

يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

هكذا كانوا قمماً في العلم والعمل، ويراهم الناس كأحلاسٍ بالية في انكسارهم بين يدي الله عز وجل، أما نحن في هذا الزمان، فنجمع مع المعصية آمالاً عظيمة، ونجمع مع الكبائر آمالاً عريضةً واسعةً، ونجمع مع الغفلة طمعاً في أعلى المراتب، إننا لا نقنط أحداً أن يطلب رحمة الله، ولكن الله عز وجل قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:٢١٨] لا يطلبن أحدٌ ولداً وهو لم ينكح، ولا يطلبن أحدٌ ثمراً وهو لم يزرع.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس