للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موازنة الشرع بين الحسنات والسيئات]

والدليل الثاني: قوله الله جل وعلا في شأن الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأن ما ترى من شر، لا يمنع أن تذكر الخير فيما ترى، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩] فالله سبحانه أثبت النفع في الخمر والميسر، ولكنه حرمها لغلبة المفاسد على المحاسن، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.

قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.

قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن في الخير الذي عندهم، فالعبرة بكثرة المحاسن.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله، وكان يلقب "حماراً" وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه زلت قدمه وتكرر شرب الخمر منه، ولكن هذا لا يعني فساده بالكلية، بل فيه من الصفات الحميدة الأخرى ما يوجب محبته وموالاته، فيعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف.

ولا يجوز بحال أن يغلب جانب النظر إلى المعصية دون النظر إلى بقية الحسنات والفضائل، وهذا حد فاصل بين أهل السنة والخوارج، إذ أن أهل السنة يحبون الرجل من وجه ويبغضونه من وجوه، أو يحبونه من وجوه ويبغضونه من وجه، وقد يجتمع في الواحد حب وبغض في آن واحد، قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما جاءه الشيطان يحثو ويسرق من مال الصدقة وذكره وعلمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان قال: (أما إنه صدقك وهو كذوب) فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصدق للشيطان، الذي ديدنه الكذب في تلك الحالة، فلم يمنع ذلك من تقبل الخير الذي دل عليه.