للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وصية لي ولكم]

هي وصية ونداء من الله لنا ألا تلهينا أموالنا، وألا تلهينا أولادنا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:١٤] يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:٩ - ١١].

إن الله جل وعلا يذكر شأن الضالين الذين فرطوا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].

سيبقى بعد تمنيه، وبعد رجائه، وبعد أمله أن يرد؛ إنه لن يجاب (كلا) مرجوع مزجور، سيبقى في البرزخ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} [المؤمنون:١٠٠ - ١٠١] إذا انتهت مدة البرزخ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:١٠١] أين الغبطة؟ وأين التجارة؟ وأين النعيم؟ وأين ما ينفع؟ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:١٠٢ - ١٠٤] ثم يأتي التقريع، ويأتي التوبيخ: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:١٠٥] ألم يأتكم أنبياء؟ ألم يأتكم رسل؟ ألم يبلغكم القرآن كاملاً غير محرف، محفوظاً من الزيادة والنقصان؟ ألم تسمعوا المواعظ؟ ألم تسمعوا النداء؟ ألم تقرع قلوبكم سياط المواعظ؟ ألم تعتبروا بقصص من حل بهم الموت وهم على المعصية؟ ما الذي بدلكم؟ وما الذي أبعدكم؟ {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:١٠٥] هناك من كذب، وهناك من فرط، وهناك من شكك، وهناك من قال: ربما، ولعل، وليت:

ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل، ولا لو اني

ما تنفع أبداً: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:١٠٥ - ١٠٦] شقاء في الإصرار؛ في التكذيب، في عناد الرُسل، في عناد الدعاة إلى الله، في عناد من نصحنا وأمرنا بالصلاة، في عناد من حذرنا من اللهو والغفلة، في عناد من دعانا إلى طريق الله: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦].

لكن يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧] فيرد الجبار عليهم بعد أعوام طويلة: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] هم يصطرخون ويصيحون وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] يرد عليهم الجواب بعد زمن طويل {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨].

وهذا شأن كل ضال سيندم عند الموت، وسيندم في القبر، وسيندم عند البعث، وسيندم في الحشر، وسيندم عند تطاير الصحف، وسيندم حينما يعبر على الصراط، وسيندم حينما يرى مصارع أهل النار، وسيندم حينما يرى منازل أهل الجنة، أسأل الله أن يجعلنا من المغبوطين، ولا يجعلنا من المغبونين.

قال صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أخرجه الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إنها غنيمة، والغنيمة يُحتاج إلى البداية فيها.

والغنيمة أمر يفوت إن فرطت فيه، وأمر إنما يُقال لشيء سرعان ما ينفذ ولا يبقى، أما الأمور الوافرة، فلا تقول لرجل: اغتنم من البحر شيئاً من الماء، فماء البحر كثير لا يُعد إدراك شيء من مائه غنيمة، ولكن تقول: اغتنم أمراً من الأمور التي إن فرطت فيها ولَّت عنك أو ولِّيت عنها.

فالواجب علينا أن نبادر بالأعمال، أن نسارع إلى الخيرات قبل أن يُحال بيننا وبينها، وإذا حِيل بين العبد وبين العمل الصالح فحينئذٍ لا تسأل عن حسرته، والله إن أناساً تمنوا الرجوع؛ يريدون أن يتوبوا وهم أحياء، فحيل بينهم من شدة ما طُبع على قلوبهم.

تركوا الجمعة والجمع والجماعات، واقترفوا المعاصي والسيئات، وداوموا الخطايا والفواحش الموبقات، واستهزءوا بالدعاة، وسخروا من آيات الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:٥٤] ولأجل ذلك لما دعانا ربنا إلى الاستجابة، لما يدعونا به سبحانه ويدعونا به نبيه صلى الله عليه وسلم، قال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤] كأن من معاني الآية: أن من لم يستجب، قد يحال بينه وبين قلبه، كأن من معاني الآية: أن من دعي فأعرض، من نودي فنأى، من دني إليه فأبعد، كأن من معاني الآية: أن من أصر على ذلك، وطبع على قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمع والجماعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم).

فإذا طبع على القلب، حيل بينه وبين التوبة، وحيل بينه وبين الرجوع، يحدثني أحد الإخوة عن ضابط من ضباط السجون، قال: إن بعض الذين حُكم عليهم بالقتل إذا كان فجر الجمعة أو صبيحة الجمعة، جيء بكاتب عدل ليكتب وصية من سينفذ فيه الحكم، إما حرابةً، أو قتلاً، أو رجماً بالحجارة، أو ضربةً بسيف، أو رمياً برصاص، أو نحو ذلك، قال: فبعضهم إذا قيل له: إن هذا كاتب عدل يكتب وصيتك، ستموت هذا اليوم، أو سينفذ حكم الله فيك هذا اليوم، قال: بعضهم يبكي وينوح ويصيح أعطوني سجادة أصلي، أعطوني قرآناً أقرأ، يلتفت إلى السجناء: ادعوا لي، اسألوا من تعرفون فيه الصلاح أن يدعو لي عند الله، أن يسأل الله لي بالتوبة والمغفرة.

قال: فيرجع ويندم ويبكي حتى تدنو الساعة، بقي أربع ساعات، ثلاث ساعات، ساعتان، يركب في السيارة، الساعة الأخيرة ثم ينفذ فيه الحكم وينتهي، قال: وبعضهم يأتي كاتب العدل، فيقول له: هل من وصية؟ فيقول: لا، فيقول: اغتنم ما بقي، نحن في السابعة صباحاً، وفي الواحدة، أو الثانية عشرة والنصف، سيكون أمر الله وحكم الله وشرع الله رحمة وتطهيراً، فيقول: دعنا من كلامك يا شيخ، قال: بعضهم والله يُعطى السجادة فلا يأخذها، ويُعرض عليه الماء ليتوضأ فلا يُقبل على الوضوء ليصلي، ويدعى إلى ركعتين قبل أن يُقتل فلا يسجدها ولا يركعها، وبعضهم يقول: أعطوني (تتن) وآخر يقول: أعطوني كذا، والآخر يقول: (أعطوني دخان) حيل بينهم وبين ما يشتهون {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤] قد طبع على قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فأسأل الله بحوله وقوته ومنِّه وكرمه أن يجعلنا من المستجيبين له ولرسوله، وألا يجعلنا ممن طُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، أولم ينادنا ربنا يا إخواني! يا أيها المستمعون والمستمعات! يا أيها المسلمون والمسلمات! أولم يدعونا ربنا أن ننيب، وأن نستجيب، قال ربنا جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٣ - ٥٤] أنيبوا، ارجعوا، أسلموا، استسلموا، انقادوا، اخضعوا، دعوا المكابرة، دعوا العناد، دعوا التسويف، دعوا التأجيل، الفرصة متاحة، والباب مفتوح، فأقبلوا فإن الله رب يفرح بتوبة عبده أشد من أحدنا إذا أضاع دابته في فلاةٍ وعليها طعامه وشرابه ثم وجدها، ربٌ غنيٌ عنا يفرح بتوبتنا فينادينا ويقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:٥٤ - ٥٨].

أولم تكن آيات الله تتلى عليك؟ أولم يُعمرك الله؟ أولم يجعلك الله متدبراً؟ أما رأيت مصارع الضالين؟ أما علمت أن أناساً ماتوا والمخدرات في أوردتهم وشرايينهم وأبدانهم؟ أما علمت أن أناس