للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ليس كل خلاف يعتد به]

يوم أن يخرج في المجتمع حالاتٌ متشنجة، وظواهر متهورة، ليس لها دليلٌ من القرآن ولا برهان من السنة، ولا نورٌ من أهل العلم ولا بيانٌ من دعاة الإسلام، حينئذٍ يتكلم من يتكلم ويقول: إن الخلاف الفقهي في دين الإسلام يسع الأمة، وقديماً كان العلماء يختلفون والخلاف لا يفسد للود قضية، والخلاف فيه مساغٌ وفسحةٌ أن يأخذ من شاء برأي من شاء، والخلاف إنما هو من اجتهادات البشر وما دام الأمر اجتهاداً فلكل واحدٍ أن يأخذ ما شاء وليس لواحدٍ أن يلزم غيره بقول غيره -شنشنةٍ نعرفها من أخزم- حينما نتكلم في دين الإسلام فإننا ننطلق من أمورٍ وأركان: أولها: أن الله جل وعلا تعبدنا بطاعته ومن أراد أن يأتي بأمرٍ من عنده فهذه هي البدعة، وهي فعلة تخالف السنة والشريعة إما بزيادةٍ أو بنقص: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود كما يقول صلى الله عليه وسلم.

الحاصل يا عباد الله: أننا ننطلق من هذه الأركان ومن أهمها أيضاً: إن الله لم يأمرنا بأمرٍ إلا لتمام الحكمة وتمام الرحمة والنعمة وتمام العدل والبصيرة واللطف التي يعلمها سبحانه وحده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].

نحن أيها الأمة: أمةٌ نرتبط بالعقيدة حتى في إماطة الأذى عن الطريق (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة) هذا الأذى الذي نزيله عن الطريق نرتبط فيه بعقيدة؛ فيوم أن نميط الأذى نعتقد أننا نطيع الله، ونعتقد أننا نثاب على ذلك، ونعتقد أن أجر الإماطة يوضع في الموازين، ونعتقد أن هناك موازين، ونعتقد أن الموازين يوم القيامة، ونعتقد ونعتقد فما من أمرٍ جليلٍ ولا كبيرٍ ولا صغيرٍ إلا ويرتبط بسلسلة من الأمور العقدية التي تنتهي إلى قولنا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥].

فإذا قال الله لنسائنا ولبناتنا وأمهاتنا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:٣٣] وإذا قال الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:٣١] وإذا قال الله جلا وعلا: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:٣١] وإذا قال الله جل وعلا: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:٣٢] وإذا قال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:٥٣].

نقول كل هذه الآيات البينات الواضحات شرعها الله وأمر الله بها نساء المؤمنين لحكمةٍ يعلمها سبحانه، فإما أن نقول: يا ربنا أنت حكيمٌ ونثق بحكمتك، فنطيع ونسلم لهذه الحكمة.

وإما أن نقول: لست بربٍ حكيم عياذاً بالله من ذلك، وهذا مؤدى من يقول: إن هذه أمور قد لا تنتهي إلى مصلحة المجتمع، أو تنتهي إلى تعطيل النصف من المجتمع، أو هي إهدار للثروة القومية، أو خنقٌ للمجتمع، أو كبتٌ للبنات، أو قعودٌ بالمرأة بـ السعودية عن مواكبة حال المرأة الغربية المتطورة.

حينما نناقش الذين يدعون إلى التبرج والسفور والانحلال بأي دعوى من الدعاوي فنحن نقول لهم بادئ ذي بدء قبل أن نقول: لا.

هنا دليل يقول: يجوز كذلك، وهنا دليل يقول: يجوز كذلك، ونبدأ في معركة فقهية قبل أن نقرر القاعدة التي ننطلق منها، فلنسلم لحكمة الله أو لا نسلم بحكمة الله.

كل هذا -أيها الأخوة- أريده مقدمة حتى أصل إلى ما أريده الآن؛ لأن بعد ظهور الدعوة إلى تحرير المرأة، وتبرج المرأة، وسفور المرأة جاء من يقول: إن بعض القضايا يحلها الزمن، وجاء من يقول: إن الناس قد أنكروا البرقية يوماً ما، ثم تعاملوا بها، وإن الناس أنكروا تعليم البنات ثم وافقوه، وإن الناس ردوا التلفاز ثم أدخلوه البيوت، فما دام الناس قد أنكروا بلسان الحال أو بالمقال، ومادام الناس قد أنكروا قيادة المرأة للسيارة فسيوافقون عليها في يومٍ من الأيام، من قال إن قيادة المرأة كتعليمها؟ من قال: إن قيادة المرأة كالبرقية؟ من قال إن قيادة المرأة كالتلفاز؟ لا والله، ثم إن كان هناك من معارض في مسائل معينة، فليست كل هذه المسائل، وهم عدد قليل، ولا أشك أن معارضتهم في أسلوب تعليم المرأة، وهم فئةٌ قليلةٌ محدودة، وإذا كان هناك من عارض، فهل يعني: أن الأمة كلها قد وافقت في هذا الزمان على قيادة المرأة؟ لا والله، بل رفضوها رفضاً مطلقاًً باتاً.

ولكن المصيبة -يا عباد الله- أن يقال: إن الإسلام جاء برحابة الصدر في الخلاف في المسائل الفقهية، وإن الإسلام أمرنا ألا ينكر بعضنا على بعضٍ في القضايا الاختلافية، وإن الإسلام جعل لكلٍ أن يأخذ بأي رأي من الآراء، وحينئذٍ أسألكم وأنتم الحكم، ما دمنا نقول: إذا وجد الخلاف في أي مسألة من المسائل فالأمر حينئذٍ واسع كلٌ يأخذ من الأقوال ما يشاء.

أولاً: ما هو الخلاف؟ وخلاف من ذلك الذي يعتد به ويعتبر؟ لو أن عالماً من العلماء أفتى، فمر رجل من النخاسة من الذين يبيعون الدواب والجمال فقال: يا شيخ! أنا أخالفك في هذه الفتوى، نقول: قف لقد خالف بائع الحمير هذا العالم! فالمسألة فيها سعة وكلٌ يأخذ بما يشاء من الأقوال هل يعقل هذا الكلام؟ فإذا خالف باعة البصل والثوم العلماء والأجلاء هل يعتبر خلافهم في هذه المسألة؟ وإذا خالف من لا يعتد بخلافه لعلماءٍ شابت لحاهم في الإسلام وعرفوا بالتقوى والقيام والصيام وقضاء حوائج المسلمين وأجمعت الأمة على صلاحهم وحبهم في الله ولله، هل يعتد بخلاف من خالفهم؟ ولو سلمنا بهذا لقلت لواحدٍ منكم: هناك من خالف في الربا وقال يجوز أن نأكل الربا، اذهب وكل ما شئت من الربا، هناك -أيضاً- من خالف وقال: يجوز ألا تغطي المرأة وجهها، بل إن عورة المرأة إلى ركبتها، أخرج امرأتك سافرة الوجه والشعر والساقين.

وهناك من يقول: إن الصلاة مع الجماعة ليست واجبة فصل في بيتك.

وهناك من يقول: إن مجرد النظر إلى الأفلام والمسلسلات في الشاشات ليس نظرٌ للحقيقة وإنما هو نظرٌ للصورة فانظر إلى ما شئت من الأفلام والمسلسلات.

وهناك من يقول: إن المرأة يجوز لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها، يعني: أن تقابل امرأةً فتعجبك فتقول لها: زوجيني نفسك، فتقول: ليس عندي مانع، فتخرج وتذهب أنت وإياها وتجد اثنين من الباطلين العاطلين فيشهدان لك.

أي دينٍ هذا؟ هل يجتمع بهذه الصورة دين مسلم ودين زنديق؟ هل يجتمع بهذه الصورة مسلمٌ قد خاف الله وراقبه في كل ما يأتي ويذر وتلفيقٌ وزندقةٌ وبعدٌ عن طاعة الله جل وعلا؟ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيَّن، وإن الحرام بيَّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، إلا وإن لكل ملكٍ حمى، إلا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة).

هذه المضغة إذا صلحت تتبعت سبل الحلال وابتعدت وجانبت عن سبيل المشتبهات، وعن بنيات الطرق، وابتعدت عن الأباطيل والمضلات: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت) تتبعت الرخص والأقوال والخلافات ومضلات الأمور وبنيات الطرق وأقوال السفلة: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؟ فأوصنا، قال: أوصيكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، واسمعوا وأطيعوا وإن تولى عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً).

صدقت يا رسول الله والله لقد رأينا اختلافاً كثيراً، ونشهد أن كلامك وحيٌ يوحى وأنك لا تنطق عن الهوى، لقد رأينا اختلافاً كثيراً، وياليته اختلافٌ فحسب بل اختلاف ويقولون: إن الخلاف قد أتى به العلماء ويقولون: إن هذا الخلاف قد قال به العلماء، رأينا تقليباً وتكذيباً وزخرفة للأمور ويقول من يقول: إن الخلاف في الإسلام واسع، ولكل امرئ أن يأخذ ما شاء من الأقوال.

لا والله يا عباد الله: ليس هذا بسبيلٍ إلى قيادة الأمة الواحدة والمجتمع الواحد، نحن لسنا كما قلت في مجتمع حزب العمال والمحافظين والمتبرجين والمنحرفين، لا.

نحن في أمة ليست أحزاباً بل هي أمةٌ واحدة سواءً من كان أتقانا لله، ومن كان واقعاً في معصية الله فنحن في إطار الأمة الواحدة، فمنا ظالمٌ لنفسه ومنا مقتصد ومنا سابقٌ بالخيرات؛ لكن أمتنا واحدة ولا نقبل ولا نرضى بالتقسيم والتفريق، يوم أن يستدل بكلام أهل العلم على جواز الخلاف والافتراق في مسائل هي باب تدهورٍ للأمة وباب هلاك لها حينئذٍ يستخدم الدواء سماً، ويجعل الطعام قاتلاً، ويجعل الشراب سماً زعافاً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم أيها الإخوة: قال علماء الأصول والقواعد الفقهية وعلماء الشريعة: إن لولي الأمر أن يلزم الأمة بطرفي المباح، أي: حينما توجد مسألة ويوجد لها وجهان وكلا الوجهين يفيدان الجواز والإباحة، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع هذا وأن يلزم الأمة بهذا لمصلحةٍ تجمع شمل الأمة على منهجٍ واحد، ونظامٍ واحد، وطريقٍ واحد، فلولي الأمر أن يلزم الأمة بواحدٍ من طرفي المباح، حينئذٍ لا نفتح عقولنا لفقه الجرائد وفقه المجلات وفقه الزوايا، وفقه القصاصات، وإنما الفقه عند أهله، وإنما العلم عند أهله.

تبقى الأمور بأهل الخير ما صلحت وإن تسوء فبالأشرار تنقاد

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا

أن يصبح أمر الشريعة وأمر الدين يتكلم فيه من يتخصص في السيا