للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الدنيا أمام الآخرة]

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجا ًوقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خير إلا ودلنا عليه، وما علم سبيل شرٍ إلا وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة: لابد أن نعلم أن هذه الحياة الدنيا -ونحن فيها على قليلٍ من اللباس، وقليلٍ من الطعام- متاعٌ، وأن الآخرة هي البقاء وهي الدار: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:٧٧].

صور النبي صلى الله عليه وسلم نعيم الدنيا بالنسبة إلى نعيم الجنة كما رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب: وصف الجنة، فقال: (مثل هذه الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع).

انظر يوم أن تجلس على ساحل محيطٍ من المحيطات أو بحرٍ من البحار، ثم تضع إصبعك في البحر، ثم تنزع إصبعك مرة أخرى فانظر كم نقص من البحر، هل نقص نصفه أو ربعه أو لتر؟ إن البحر لم ينقص شيئاً، فإن ما علق بأصبعك من قطرة من الماء هي الدنيا، وأما الآخرة فهي البحر كله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الدنيا في الآخرة كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم -وأشار بالسبابة صلى الله عليه وسلم ثم قال-: فلينظر بم يرجع).

أيها الأحبة في الله: لذا إن الله عاتب المؤمنين إذا قعدوا بالدنيا عن الآخرة، واشتغلوا بالفاني عن الباقي، وتعلقوا بالزائل عن الدائم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:٣٨].

أحبابنا: إن الله عز وجل قد جعل نعيم الجنة أضعافاً مضاعفة، وقد جعل فيه فضلاً لا يحيطه عقلٌ، وحسبك أن موضع سوطٍ في الجنة أعظم وأجَلُّ وأبرك وأطيب من الدنيا وما فيها: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس) قاب قوس أي: موضع قوسٍ في الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس.

لكن اعلموا يا عباد الله! أن هذه الدنيا لئن كانت مكدرة فإن الجنة خالية من الشوائب والكدر، ألا ترى أن طعام أهل الدنيا وشرابهم يتحول إلى الغائط والبول ورائحة كريهة؟! ألا ترى أن نساءنا يقطعهن الحيض والنفاس، ألا ترى أن شيئاً في هذه الدنيا يكدره ما يكدره؟ أما نعيم الجنة فلا يشوبه كدرٌ، بل إنه نعيمٌ باقٍ دائم، ولذلك مثل الله متاع الدنيا كزهرة وورقة خضراء تيبس ثم تذروها الرياح، فكأن لم تكن شيئاً، أما الجنة فهو رزق ما له من نفاد: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦] أما الجنة فأُكلها دائم وظلها.

أيها الأحبة في الله: إننا إذا تأملنا هذه الحقائق علمنا أن الفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة، وأن الفوز الزائف المؤقت هو تعلق أهل الدنيا بما يحققون.

تذكر حال لاعبٍ قد صفقت له الجماهير، وهتفت وأعطته الهتافات يوم أن سدد برجله ضربةً على تلك الكرة إلى مرمى فريق الخصم، ثم التفت والجماهير وهي تهتف له، ثم أتى أقرانه وأترابه من اللاعبين يقبلونه ويحملونه على رءوسهم، انظروا تلك الفرحة التي تغمره، أو يراها فرحةً غامرة، والله ليس ذلك إلا خداع فرحة، وما ذاك إلا خداع سرورٍ ولو تأمله لوجد أن بعده ما بعده.

وانظر ذلك الذي يناقش رسالةً في الماجستير أو الدكتوراه، فإذا خرجت اللجنة بعد أن تداولت ما قدمه الطالب في رسالته، وأعلنت اللجنة مجتمعة لا بالأغلبية أن هذا الطالب نال الامتياز ومرتبة الشرف، وأوصت بطباعة رسالته، كيف يتهلل وجهه؟! وانظر إلى آخر يسمع قراراً يبشر فيه بمرتبةٍ علية في وظيفةٍ أو في منصبٍ من المناصب كل ذلك نعيمٌ أو متاعٌ أو فرحةٌ أو فوزٌ، ولكنه بين حلال وحرام، وما كان من ذلك كله فاعلم أنه زائلٌ وينتهي عنك.

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها