للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مشكلات في طريق الدعوة]

الأمر الآخر: أن بعضهم على مقدرة بالغة، جميلة جليلة طيبة، ومع ذلك:

أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد

يا فلان! انطلق، يا فلان! ادع إلى الله جل وعلا، يا فلان! انظر أعداء الله جل وعلا، هذا سافل ساقط خبيث حقير حداثي، جرثومة حداثية تبدأ تنشر قصيدة، يأتي من بعده بالتلميع والتعقيب وتسليط الأضواء، والشرح والاختصار، والتحقيق والتخريج فيجعل من كلمة الساقط التافهة مطولة من المطولات.

وأنت يا من تملك هذا! يا من تقدر على أن تأتي بالكثير الكثير! لا تزال تظن أنك لم تستطع، لم تقدر، ولذلك لما تأملت ذات مرة وكنت في زيارة لطلاب جامعة الإمام في السكن الجامعي، فلما نزلنا إلى صلاة المغرب في المسجد، وإذ بالمسجد يمتلئ قرابة ألفي شاب، الله أكبر! جامعة إسلامية وكل هؤلاء أغلبهم قد اجتاز المعاهد العلمية ونال حظاً وافراً من العلوم الشرعية، والأحكام الفرعية، والأصول والفقه، والتفسير، ولا تجد من بين هؤلاء كما في البخاري: (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) لا تكاد تخرج من قرابة المائة طالب من ذوي التخصصات الشرعية واحداً أو اثنين أو ثلاثة، كلهم صالحون وعلى درجة من الصلاح والتقى، من قيام الليل، من صيام الإثنين والخميس، لكن أين أثرهم في الدعوة؟ أين بصماتهم في واقعهم؟ أين جهودهم في مجتمعاتهم؟ لا توجد.

وربما بعضهم من أهل منطقة نائية تبعد عن المدينة أو العاصمة أربعمائة كيلو، ثلاثمائة كيلو، قرية بعيدة جداً، وإذا جاء الخميس أو الجمعة أو يوم الأربعاء تجده أول من يخرج من الكلية لزيارة أهله والمكوث معهم بقية الأربعاء والخميس والجمعة، وربما جاء فجر السبت أو مساء الجمعة ما نقل إلى قريته شريطاً أو كتاباً واحداً، وما أقام في قريته درساً واحداً، ما دعا إلى الله جل وعلا في قريته، يذهب ويأوي فقط، تغدو خماصاً وتروح خماصاً، يعني: يذهب جائعاً ويعود جائعاً، أو ربما يروح بطاناً أي: مليئاً لكنه لا ينفق ولا يعطي مما عنده شيئاً، لماذا البخل؟ أهو غرورٌ أم احتقارٌ للذات، إن كان غروراً، أو أن قريتك أو أن مجتمعك حتى ولو كنت في هذه المدينة، أو الحي الذي تسكن فيه ليس بكفءٍ أن تدعوهم إلى الله، أو قد اكتملت جوانب صلاحهم واستقامتهم فليسوا بحاجة إلى طرح مواضيع تنفعهم، أو أنه احتقارٌ للذات، فترى أنك لست بشيء أبداً.

أما إذا كانت المشكلة (مشكلة احتقار الذات) مشكلة نفسية، فهذه تحتاج إلى وقتٍ طويل، وربما بعضهم اجتهدت في زيارته، وبعضهم والله زرته في بيته مراراً: يا فلان! والله إني أجدك أفصح مني، وأفضل مني، وأحسن مني، وأحفظ مني، وأرى لك مكاناً وموقعاً ومنزلاً، لو نزلت الميدان لنفع الله بك خلقاً عظيماً، فيقول: لا، لا يزال.

تقنعه: الذي يقصرني هل يقصرك؟ فصاحة، هل يقصرك معلومات؟ يقول: أنا عندي معلومات أكثر منك، هل يقصرك مقدرة؟ يقول: ربما أنا أكثر جلداً منك، إذاً: ماذا تنتظر؟ يقول: فقط الناس لا يعرفون هذا الشيء ولا يعترفون بهذا الشيء، أو لا يسلمون لي بهذا الشيء، هنا خطرٌ من أمرين: الأمر الأول: أن المشكلة النفسية لا تزال قائمة.

والأمر الثاني: أنك تريد أن يجتمع الناس لك كما يجتمع الناس لـ ابن عثيمين وابن باز حينما تلقي محاضرة.

ابدأ ولو لم يحضر معك إلا خمسة، سبعة، عشرة، عشرون مائة، المهم ابدأ، وثق بنفسك تمام الثقة، والله جل وعلا حينما يعلم منك الإخلاص والصدق في هذا الطريق سيجمع الناس لك، وسييسر لك وإن لم يحضر معك إلا أربعة، فربما سجل كلامك، وانتقل إلى أضعاف الذين حضروا معك، فنفعهم بإذن الله واهتدى من اهتدى بسبب كلامك هذا ولم تشعر بذلك، ولم تر ذلك إلا في موازين أعمالك يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩] تأتي يوم القيامة وأنت تنظر: يا ربِّ! حسناتي قليلة، يا ربِّ! هفواتي كثيرة:

إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني

يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

خائف على نفسك، فإذا البشارة تأتيك في سجل أعمالك: أبشر يا فلان! فقد تقبل الله هدايتك، أو كلمتك أو نصيحتك، أو دعوتك أو محاضرتك، فهدى الله بها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وهاهم في موازين أعمالك، فيطيش ميزانك بالحسنات فتكون من أهل الجنة بسبب هذه الكلمة التي ربما ما حضرها إلا أربعة أو خمسة.

أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك هذا الأمر جيداً، يقال: إن أحد السلف -ولا يحضرني اسمه الآن- ألف منظومة لا أدري أهي الشاطبية أم الرحبية أم كتاباً غيرهما، لما ألفها في نفسه سراً جعلها في رقعة ورمى بها في البحر، وقال: اللهم إن كانت خالصةً لوجهك فانفع بها، وإن كانت غير ذلك فلا تجعل بها لبشر حظاً ولا نصيباً.

فكتب الله لهذه الرقعة أن تطفو ووجدها قومٌ في مركب، فأخذوها وتناقلوها، وما زال الناس يحفظونها ويتدارسونها إلى يومنا هذا، فكلمة الحق حينما تقولها تريد بها وجه الله جل وعلا، والنصيحة والدعوة إلى الله؛ حينما تبذلها تريد بها وجه الله فأنت أديت ما عليك أولاً.

وثانياً: لن تكون أفضل من الأنبياء والرسل، كما في الحديث الصحيح: (وعرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرُهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) الله أكبر! نبي مؤيد بالوحي والعصمة والمعجزة ولا يأتي معه يوم القيامة أحد، فما آمن معه من قومه إلا قليل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:٣٨] وهم قلة، ومع ذلك هل ضاعت ثمار دعوته؟ هل ضاعت أجور أعماله وسعيه؟ لا والله.

إذاً أيها الأحبة: لابد أن نفقه أننا ينبغي أن نبدأ حتى لو كانت البداية مع الجيران في أربعة أشخاص، أو بخمسة أشخاص، ثم قليلاً قليلاً، وإذا كان الإنسان صادقاً مديماً على ما يعمل، مخلصاً لما يعمل، بإذن الله سيأتي اليوم الذي يكون له شأن، ويهتدي على يديه الخلق العظيم.

المشكلة الثانية التي هي مشكلة العقدة النفسية: واسمحوا لي أن أضرب هذا المثل الذي ربما ضربته في أكثر من مكان، يقولون: إنه يوجد رجل كان يعتقد -عنده مشكلة نفسية- عن نفسه أنه حبة شعير، رجل بطوله وعرضه كان يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير، ولذلك لا يزور أناساً عندهم دجاج، أو أحداً عنده حمام، لماذا؟ يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير وأن الدجاجة أو الحمامة سوف تأكله، فعالجوه، وأقول: حبة الشعير الآن هو بعض إخواننا الذين عنده خيرٌ عظيم لكنه يعتقد أنه ليس بشيء، فهذا رجل لكنه يعتقد أنه حبة، فعالجوه ثلاث سنوات في علاج نفسي واختبارات نفسية حتى تماثل للشفاء وشفي بإذن الله، فلما جاء أوان خروجه من المستشفى، قالوا: هاه يا فلان! بشر اقتنعت أنك رجل، اقتنعت أنك إنسان، ولست بحبة شعير؟ قال: نعم.

أنا اقتنعت لكن أقنعوا الدجاج.

وهذه مشكلة أن نبدأ ننفخ في شخصية: يا فلان! فيك خير، يا فلان! عندك نفع، يا فلان! عندك مقدرة، يا فلان! عندك معلومات، يقول: أنا مقتنع لكن أقنعوا الناس أيستمعوا إليَّ، أقنعوا الناس أن يستفيدوا مني، اقنعوا الناس أن يتجمهروا لي.

يا أخي! أنت ابدأ، دعنا من عقدة الدجاجة والشعيرة هذه، فبإذن الله من سار على دربٍ في إخلاصٍ وصل إلى عاقبة حميدة.