للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إياك والتسويف فالقبر أمامك]

اغتنم هذا كله وإياك أن تسوف؛ فإن الدنيا دول والدهر قلب: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] تلك الأيام يداولها الله جل وعلا بين أمم وأمم.

ذكر أن واحداً من البرامكة دخلت عليه ابنته وقالت: يا أبت! ما الذي حول حالنا إلى ما نحن فيه اليوم، بتنا في عزٍ وأصبحنا في ذل، بتنا في غنىً وأصبحنا في فقر؟! فقال: يا بنيه

رب قومٍ أمنوا في نعمةٍ زمناً والدهر ريان غدق

سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم حين نطق

أيها الأحبة: العاقل يغتنم كل شيءٍ حوله، ثم أسوق لكم أبياتاً جميلةٍ أريد من كل واحدٍ أن يحاسب أو يسائل نفسه بها:

خل ادكار الأربع والمعهد المرتبع

والضاعن المودع وعدِ عنه ودع

واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا

ولم تزل معتكفا على القبيح الشنع

كم ليلةٍ أو دعتها مآثماً أبدعتها

لشهوةٍ أطعتها في مرقد ومضجع

وكم خطىً حثثتها في خزيةٍ أحدثتها

وتوبةٍ نكثتها لملعبٍ ومرتع

وكم تجرأت على رب السماوات العلا

ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي

وكم غمضت بره وكم أمنت مكره

وكم نبذت أمره نبذ الحذا المرقَّع

وكم ركضت في اللعب وفهت عمداً بالكذب

ولم تراعِ ما يجب في عهده المتبع

فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم

قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع

واخضع خضوع المعترف ولذ ملاذ المقترف

واعصِ هواك وانحرف عنه انحراف المقلع

إلى متى تسهو تني ومعظم العمر فني

فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع

أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط

ومن ينح وقت الشمط بفوزه فقد نعي

ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص

وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي

واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى

واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي

وانتهجي سبل الهدى وادكري وشك الردى

وأن مثواك غدا في قعر لحدٍ بلقع

آهٍ له بيت البلى والمنزل القفر الخلا

ومورد السفر الألى واللاحق المتَّبع

بيت يرى من أودعه قد ضمه واستودعه

بعد الفضاء والسعة قيد ثلاث أذرع

لا فرق أن يحله داهية أو أبله

أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبع

هذه النهاية إن نهاية الذين اغتنموا حياتهم أن ينتقلوا إلى المقبرة، ولكنهم يبشرون بروحٍ وريحان وجنة نعيم، ويفتح لهم أبوابٌ إلى الجنان فيروا ما أعد الله لهم فيقول قائلهم: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، وأما الذين ضيعوا أوقاتهم وأصروا على المعصية، وسمعوا الموعظة ثم دخلت من هاهنا وخرجت من هاهنا، وسوفوا ثم جاءهم داعي الموت وخطفتهم سهام المنون ونقلتهم إلى بيت الدود وضيق اللحود يقول أحدهم: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة، لأنه يرى شيئاً يستوحش منه فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ.