للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توديع التائب أحمد للدنيا ولحوقه بربه]

ومضى على هذه الحال زمناً إلى أن جاء يومٌ من الأيام الماضية، وكان يوم الجمعة، من عطلة الربيع عام (١٤٠٩هـ) وبعد العشاء من ذلك اليوم اتصل بي رجلٌ، فقال: -واسم صاحبنا الذي أخبرني بالقصة أحمد، والشاب التائب اسمه أحمد- فقال: أنا والد صاحبك أحمد وأريدك أن تأتي إلي مسرعاً في أمرٍ مهم، قال: فخرجت مسرعاً خائفاً، فلما بلغت باب قصره إذا بالأب واقفٌ على الباب فسألته ما الخبر؟ فقال: صاحبك أحمد يطلبك السماح وهو يودعك إلى الدار الآخرة، لقد انتقل مغرب هذا اليوم إلى ربه، ثم انفجر الأب باكياً، يقول صاحبنا: وأنا أهون عليه وبقلبي على فراق حبيبي وصديقي مثل الذي بقلب والده، ثم دخلنا، فأدخلني في غرفةٍ، يقول صاحبنا الذي يذكر القصة: كان صاحبي فيها مسجىً مغطى، فكشفت عليه ووجهه يتلألأ نوراً، كشفت وجهاً قد فارق الحياة لكنه أنور وأبهى وأبهج وأجمل من قبل موته، كله نور، ورأيت محياً كله سرور، فقال لي والده: إني أسألك ما الذي فعله ولدي يوم أن سافر منذ أن جاء من السفر وهو على حاله؟! قال صاحبنا هذا -وكان قد عاهد ألا يخبر بالقصة بعينها، وإنما يذكرها على سبيل العظة والاعتبار، دون تحديدٍ لاسم شخصية عائلة هذا الشخص حتى لا يعرف- قال: صاحبنا لوالده: إن ولدك يوم أن سافر فقد عزيزاً عليه في سفره ذلك، نعم، فقد في تلك اللحظة إيماناً عظيماً، فقد في لحظة الزنا إخباتاً وإقبالاً لقد فقد عزيزاً.

أما زوجة هذا التائب، فتقول: إن نومه غفوات، وما استغرق في نومٍ بعد رجوعه من السفر، وهم لا يعرفون حقيقة القصة، قال صاحبنا: فسألت والده عن موته، فقال الأب: إن ولدي هذا كما تعلم، يصوم يوماً، ويفطر يوماً، وفي يوم الجمعة هذا، بقي عصر يومه في المسجد يتحرى ساعة الإجابة، وقبيل المغرب ذهبت إلى ولدي فقلت: يا أحمد! تعال وأفطر في البيت، فقال: يا والدي إني أحس بسعادة فدعني الآن، قال: يا ولدي! تعال لتفطر في البيت، قال: أرسلوا لي ما أفطر عليه في المسجد، قال: أنت وشأنك، وبعد الصلاة قال الأب لولده: يا ولدي! هيا إلى البيت لتتناول عشاءك، فقال التائب أحمد: إني أحس براحة عظيمة الآن، وأريد البقاء في المسجد، ولكن بعد صلاة العشاء سآتيكم لذلك، فقال الوالد: أنت وما أردت، ولما عاد الأب إلى المنزل أحس بشيء يخالج قلبه، ويخاطر فؤاده، يقول الأب: أحسست بشعورٍ غريب، فبعثت ولدي الصغير، فقلت: اذهب إلى المسجد، وانظر ما الذي بأخيك.

فذهب الولد وعاد صارخاً، يا أبت! يا أبت! أخي أحمد لا يكلمني، يقول الأب: فخرجت مسرعاً إلى المسجد، فوجدت ولدي أحمد ممدداً، وهو في ساعة الاحتضار، وكان يتكئ على مستند ليرتاح عليه في خلوته بربه، واستغفاره وتلاوته، قال: فأبعدت عنه المستند الذي يتكئ عليه، وأسندته إلي، فنظرت إليه، فإذا هو يذكر اسم صاحبنا هذا الذي يقص علينا القصة، هذا الذي بلغنا الواقعة، وكأنه يوصي بإبلاغ السلام إليه، ثم إن التائب أحمد هذا الذي توفي ابتسم ابتسامة في ساعة الاحتضار، يقول أبوه: والله ما ابتسم ابتسامة مثلها من يوم أن جاء من سفره، ثم قرأ في تلك اللحظة -التي يحتضر فيها ويتبسم- وهو يرتل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] قال: فلما بلغ هذه فاضت روحه، وأسلم الروح إلى باريها.

يقول الأب لصاحبنا هذا: والله لا أدري هل أبكي على حسن خاتمته فرحاً، أم أبكي على فراق ولدي، وفلذة كبدي، ثم إن هذا القصة أصبحت سبباً في صلاح أسرته وإخوانه.

فيا أيها الأحبة! البدار البدار إلى التوبة، فإن الموت لا يمهل المذنبين، ووالله ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، وما بعد الموت من مستعتب، فهل يفقه هذا مذنب؟! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.