للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دوافع تفشي ظاهرة المعاكسة]

الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا في محكم كتابه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:٣٢].

عباد الله: إن في هذه الآية لَعِبَراً وأبواباً عظيمة؛ من تأملها وجدها كافية لسد جوانب كبيرة من جوانب الفساد، وإن من يتأمل واقعه ومجتمعه اليوم ويرى ما انتشر فيه من مصيبة المعاكسات، أو ما يُسمى بالمغازلات والاتصالات الهاتفية؛ ليجد أن في هذه الآية بلسماً شافياً، وترياقاً طبياً لمن أراد الهداية والاستقامة على شرع الله المبين.

أيها الأحبة في الله: أما هذه الظاهرة فموجودة لا يستطيع أحدٌ أن ينكرها، وإن البحث عن الأمراض والكشف عليها، ومن ثم دواؤها وعلاجها لخيرٌ من ادعاء النزاهة والبراءة من المرض أو العيب، ومن ثم يقع المسلم في يومٍ من الأيام فريسة مرض سرى تحت جلده، أو سرى في خفية وغفلة منه، فإذا هو يتكشف فضيحة وعاراً على وجهه وبيته، وخزياً عليه أمام الله.

ومادامت هذه الظاهرة موجودة، وأنها حقيقة لا نشك في وجودها، فيا تُرى! ما هي أسبابها؟ وما دوافعُها؟ وما علاجُها؟ أيها الأحبة في الله: إن قضية المعاكسة والمغازلة والتعرض لنساء المؤمنين عبر أجهزة الهاتف، لَهِيَ واحدة من سائر الفواحش والمعاصي والمصائب والآلام، ومنبع كل معصية وفاحشة ومصيبة تنشأ من الفراغ؛ لأن من تراه مشغولاً في عمل لمصالح دينه ودنياه، حاشاه أن يلتفت إلى مثل هذا النوع من البلاء والفساد.

وقد يكون أبطال هذه المعصية ممن قد نالوا حظاً وافراً من مكاسب الدنيا ورءوس أموالها؛ ولكن في ظنهم أن هذا الاتصال والمعاكسة يحقق مزيداً من اللذة، ويكشف أبواباً جديدة من التلذذ، وهذا -والله- سوء جهل وخبث طوية، ما لم يتوبوا إلى الله ويخبتوا إليه.

أيها الأحبة: يقع كثير من الشباب والشابات في مصيبة هذه المعاكسة، وتنفضح أمورهم، ويضحون ضحية لها، وإذا تأملت أحوالهم وجدت الكثير منهم من ذوي الفراغ والبطالة، وقديماً قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجِدَة مفسدة للمرء أي مفسدة

فإذا وُجِدَ عنفوان الشباب وقوة الصحة والعافية، ومعها من النشاط والعافية والفراغ ما جعل الإنسان متوجهاً إلى هذه المعصية، بعيداً عن أن يستفيد من وقته في عمل نافع، عند ذلك يجد أسهل وأهون وأقرب طريقة للفساد والانحراف، أن يرفع هذه السماعة ويدير قرص هذا الهاتف، أو يضغط بأصبعه على أرقامه؛ لكي يخبط خبط عشواء، في بيت من بيوت عباد الله الصالحين أو غيرهم.

فقد يوافق امرأة، إما أن تسبه وتشتمه وإما أن تعرض عن حديثه من البداية وإما أن يكون أمرها كما قال القائل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فقد تكون نتيجة هذا الاتصال وإدارة هذا القرص والأرقام في امرأة أو فتاة فارغة مثل هذا الفارغ الذي اتصل، ومن ثم تبدأ العلاقة، وتنشأ المعصية، وتنمو المصيبة، ويُرتَّب لما بعدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله من ذلك.

أيها الأحبة في الله: لا شك أن جهاز الهاتف لمَِن أهم وسائل البنية الاجتماعية، ومن أهم دلائل تطورات المجتمع، وعمق اتصالاته ونمو أعماله؛ ولكن -والله- إن في هذا الهاتف لمصائب عظيمة، ولا أقول هذا لكي نقطع أسلاكه، أو نخرجه من بيوتنا، فقد أضحى في هذا الوقت ضرورة من الضرورات؛ ولكن أقول هذا لكي ننتبه انتباهاً واضحاً مبيناً.

عباد الله: إذا كان البعض يتصل على بيته في الضحى فيجد الهاتف مشغولاً، ثم بعد نصف ساعة يجده أيضاً مشغولاً، ثم بعد مضي ساعة يجده أيضاً مشغولاً، وتمضي ساعة أو ساعتان والهاتف مشغول، هذا يدل على واحد من اثنين: الأول: إما أن يكون طفل قد رمى بهذه السماعة جانباً، فأضحى الاتصال يعطي نتيجة الإشغال.

الثاني: وإما أن تكون هناك مكالمة طويلة، ولا نجزم مباشرة أن تكون هذه المكالمة معاكسة؛ لكنها مما يدل على الفراغ، مما يدل على أن الرجل أو المرأة أن الفتى أو الفتاة قد انشغلوا بهذه السماعة نتيجة فراغ يجدونه ويعانون منه.

وقد يكون إشغال الوقت من أحاديث الناس في منازلهم، وملبوساتهم، ومطعوماتهم، ومشروباتهم، وما أوجدت هذه الأجهزة للتفصيل في هذه الأخبار المنزلية اليومية.

وإما أن يكون الأمر الآخر، وهذا احتمال وارد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عند ذلك ينبغي أن ينتبه صاحب المنزل إلى منزله، خاصة من كان بيته مليئاً بأجهزة التلفاز والفيديو، وما يُعرض فيها من مسلسلات وأفلام، قد يتعلم من يشاهدها فنوناً وألواناً من فن المعاكسة وضروبها.

نعم -يا عباد الله- ينبغي أن ينتبه صاحب المنزل إلى ما وضع في منزله، وأنه ما من شيء إلا وله نتيجة، ما من بذر إلا وله حصاد، فمن بذر بيته بالأجهزة والأفلام من بذر بيته بالمجلات من بذر بيته بأشرطة الغناء الماجن الخليع، فلا بد أن يجد النتيجة، سواءً كشفها عاجلاً أو آجلاً، وتدل على تَدَنٍّ في الأخلاق، وضعف وانكسار في الحياء {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:١١٨].

بعض أرباب البيوت يزرعون بيوتهم؛ في كل مجلس جهاز وشاشة، في كل صالة جهاز وشاشة، والأفلام متدفقة يَمْنة ويَسْرة، ثم بعد ذلك ينكر ما يجد من النتائج، وقد يكون أيضاً هو من أبطال هذا العمل.

إذا كان رب الدار بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ

عجباً! أن نجد رب البيت وصاحب المنزل وعائل الأسرة وراعي رعية أسرته، إذا كان غافلاً مشغولاً بألوان من هذه الأشرطة، وألوان من هذه الاتصالات، وتساهل في العلاقات، وانفتاح في اللقاءات، إلى حد التساهل بالمحارم والمحرمات، فلا عجب أن يسري ذلك إلى أولاده وأطفاله.

وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى روح العدالة في الشباب ضئيلا

إذا لم يكن المعلم أو رب الأسرة عدلاً ثقة أميناً فإنك لا تجني من الشوك العنب.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.