للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اشتغل بالساعة التي أنت فيها]

إن الساعة التي نجلس الآن فيها هي ساعة بين ساعات مضت، وبين ساعات قادمة، فما مضى لا نستطيع أن نفعل فيه شيئاً إلا ما قدمنا، إن كان خيراً سألنا ربنا الثبات عليه، وإن كان تفريطاً استغفرنا وندمنا، وأما المستقبل فلا نملكه، وليس بأيدينا أي شيء منه، يقول ابن القيم رحمه الله: الشأن في عمرك هو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي والمستقبل، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر، نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم.

وحفظ الوقت الحالي أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها، وأنفع لها، وأعظم تحصيناً لسعادتها، وفي هذا يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك.

ثم يقول رحمه الله رحمة واسعة ما معناه: إن الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة في اللحظة التي تعيشها الآن لهي أهون بإذن الله من ندم على معصية فيما مضى، وأهون من خوف ووجل وقلق وهم على معصية تهم بها أو تخطط لفعلها.

قال الغزالي: إن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لما تأت بعد، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد العبد فيها نفسه، فإن لم تأتِ الساعة الثانية، لم يتحسر على فوات الساعة الحاضرة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى.

ومن كلام ابن القيم أيضاً: إن دأب العبد واجتهاده في ساعته ولحظاته في طاعة الله عز وجل، وصبره عن معصيته، واجتهاده في مرضاته، تمر به الأيام بعد، ثم ينسى تعب الطاعة، ويبقى الأجر والثواب، وأما أهل المعصية فمهما تفننوا وفعلوا واجترحوا وأجرموا من الذنوب والمعاصي، فإن لذاتهم الموهومة قد مضت وانقضت وولت، ونسوا تلك اللذة، وبقي إثمها ووزرها وشؤمها.

يقول الحسن البصري رحمه الله عن الدنيا: إنها ثلاثة أيام: أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما الغد فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فهو الذي لك أن تعمل فيه، إنك أيها المسلم بين مخافتين: بين ماض لا تدري ما الله قاض فيه، وبين مستقبل لا تدري ما الله صانع فيه، فاستعن بالله ولا تعجز، وإن من جهل قيمة الوقت، وتهاون بوقته وزمنه وعمره، والله ليأتين عليه موقفان وسيعرف حينئذ أنه قد ضيع، وفرط في أمر ثمين.

إن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنهم سيعرفونها أتم المعرفة، ويدركونها أوفى الإدراك، وذلك ساعة الاحتضار إذا استدبر العبد الدنيا واستقبل الآخرة، يتمنى أن يمنح ولو ساعة من الزمان، يتمنى أن يؤخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده، وليتدارك ما فاته: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:١٠ - ١١].

فالساعة الأولى التي سينقلب كل غبي بالوقت إلى ذكي، وكل جاهل بالوقت إلى عالم، وكل مفرط في الوقت إلى حريص، الساعة الأولى التي سيتحول فيها المفرط إلى حريص على وقته هي ساعة الموت، ولكن لا ينفع الندم ولات حين مندم، وأما الساعة الثانية، والموقف الثاني فذاك في الآخرة، يوم توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار أن يعودوا ولو مرة واحدة إلى حياة التكليف، ليبدءوا عملاً جديداً صالحا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢] ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:٣٦ - ٣٧] ألم تعيشوا ثلاثين وأربعين وخمسين وسبعين وثمانين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧] وفسر النذير في بعض الآيات بالشيب.

هيهات هيهات! يطلبون أمراً في زمن قد مضى، ويتمنون الخروج من دار هم يجنون ما زرعوا، ويحصدون ما بذروا.

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا

وإذا ما هممت بالقول في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا