للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب تداعي الكفار على المسلمين]

أيها الإخوة المؤمنون! لستم بحاجة إلى مزيد من الآيات والأدلة في أن الله أمر المؤمنين بالوحدة ونهاهم عن الفرقة، ولكن لكي نعلم -أيها الأحباب- أن ما أصاب أمة الإسلام في هذا الزمان من هوانٍ على الكفار، ومن ذلة في أعين أعدائهم، ومن تسلط الجبابرة الكفرة على رقاب كثيرٍ من الطوائف منهم، إنما ذلك بسبب تفرق المسلمين، إنما ذلك بسبب عدم اجتماعهم على قلبٍ واحد، نسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين أجمعين.

أيها الأحبة! إن أعداء الأمة يوم أن أدركوا هذا السر العجيب في رفعة الأمة وسيادتها، وهو الوحدة والتعاون والاتحاد، بدءوا يسلطون معاول هدمهم على هذا الركن المتين من أسباب القوة، فمنذ عصر الخلافة الإسلامية والنصارى وأذنابهم وأعوانهم إلى زمننا هذا يسلطون جهودهم لتفريق المسلمين وتأليب بعضهم على بعض، وإثارة الأحقاد والضغائن في نفوس بعضهم على بعض لكي لا تجتمع لهم كلمة، ولكي لا يلتئم لهم صف، ولكي لا ينضموا تحت رايةٍ واحدة، لقد كان لأعداء الإسلام أعظم دورٍ في سقوط كثيرٍ من دويلات الإسلام بسبب تسلطهم على هدم هذا الجانب، وإذا شئتم أقرب الأمثلة، فانظروا تسلطهم في دويلات الأندلس؛ حيث سلطوا بعض المسلمين على بعض، فلما تفرق المسلمون وأصبحوا ملوكاً للطوائف، وصدق فيهم قول القائل:

ألقاب مملكةٍ في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

لما تقسمت بلاد الأندلس في ذلك الزمان وأصبح كلٌ يرفع لواءه بنفسه، بل وصل الأمر ببعضهم أن استعان بالنصارى لكي يكونوا عوناً له في قمع أحد إخوانه المسلمين في دولة من دويلات الطوائف، فلما فرق أعداء الإسلام المسلمين بهذه الطريقة، وهي إثارة الأحقاد والبغضاء وإثارة النزاعات العصبية والقبلية، أصبحوا لقمةً صغيرةً هانئةً صائغةً أمام أعدائهم، فأكلوهم دويلةً دويلةً حتى سقطت غرناطة آخر قلعة من قلاع الإسلام كان يملكها بنو الأحمر، وخرج أميرها وهو يقول: وداعاً يا غرناطة وداعاً لا لقاء بعده، ولأنه عرف وأدرك أن أعداءه قد نجحوا في إثارة الفتنة بين إخوانه المسلمين، ثم أكلوهم لقمةً لقمةً.

ولما تسلط الاستعمار العالمي بجميع اتجاهاته على دول المسلمين، أذاقوا المسلمين ألوان القتل والتشريد وساموهم الهوان وسرقوا مقدراتهم وثرواتهم، ولم يتركوهم هكذا بعد أن بذل المسلمون في تلك الدول أعجب الألوان في دروب الدفاع والقتال لكي يتحرروا من أعداء المسلمين، ولكي يتحرروا من الاستعمار، لم يخرجوا ويتركوا الحرية لهم في بلادهم بل تركوا مشاكل حدودية تجعل المسلمين يتقاتل بعضهم على بعضٍ من أجلها، فجعلوا المسلمين يقتل بعضهم بعضاً، ويحارب بعضهم بعضاً من أجل كيلو متراتٍ معدودة على حدود كل دولة واحدة من أجل أن تستمر البغضاء العداوة، وأن يستمر النزاع والقتال، فتارةً أولئك يتقدمون شبراً، وأولئك يتقدمون متراً، وهكذا دواليك حتى لا تجتمع قلوبهم في يومٍ من الأيام، وإن الواقع يشهد شهادةً صريحةً بذلك.

معاشر المؤمنين: لم يكتف أعداء الإسلام بهذا الأمر، بل زادوا على ذلك أن سلطوا على المسلمين من أبنائهم أو من غير أبنائهم من يتبنى أفكاراً دخيلة، ومبادئ غربية على أمة الإسلام لكي يتسلطوا بها، ولكي تكون سبباً في نقض ما بقي من وحدة الأمة الصغيرة من بين تلك الأمم المتفككة فيما بينها، فأثاروا النزاعات القبلية، والعصبيات العرقية لكي لا تجتمع أمة واحدة على قلبٍ واحد، وأنتم بهذا تعلمون يا عباد الله! أن أمةً واحدة يجمعها إقليم واحد، وتنتسب إلى بلادٍ واحدة، أو دولةٍ واحدة تقوم فيها العصبيات العرقية والنزاعات القبلية لا شك أنها لا تجتمع على قلبٍ واحد، ولو أرادت أن تجتمع فعليها أن تعود إلى حسابٍ مدين لا بد أن تصفيه في أمورٍ كثيرة، أولها: هذه النزاعات وهذه العصبيات.

معاشر المؤمنين! إنه لا عز ولا سلطان لأمة الإسلام ولا منعة ولا كرامة للمسلمين إلا أن يتحدوا فيما بينهم، ويعملوا بقول الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:١٠٣] لقد كانت أمة العرب طوائف متناحرة، وقبائل متقاتلة، دامت بينهم حروبٌ عظيمة: كداحس والغبراء، وحرب البسوس، أربعين سنة دامت وهم يقتل بعضهم بعضاً، ولم تنته هذه الحرب إلا يوم أن بعث الله النور المبين محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والمرسلين، فجمع قلوبهم، وأزال الضغائن والإحن فيما بينهم، فلا سلطان للمسلمين ولا وحدة لهم إلا أن يوحدوا صفوفهم ويلموا شتاتهم، وأن يجمعوا كلمتهم، وأن يحددوا رايتهم التي من أجلها يعملون وفي سبيلها يستشهدون، لابد لأمة الإسلام من هذا، وبدون ذلك لن تقوم للإسلام قائمة، نسأل الله جل وعلا أن يديم ما بقي من وحدة المسلمين في هذه البلاد خاصة، وفي سائر بلاد المسلمين عامة.

معاشر المؤمنين! روى الإمام مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).

وروى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنةٍ بعامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنةٍ عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال: من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً).

إذاً -أيها الإخوة- نعلم أن أي هدمٍ أو شرخٍ في وحدة أمة الإسلام إنما هو بسبب داخلي فيها وليس لأمر خارجي عنها، لأن الله قد أعطى الأمة ألا يهلكها بسنةٍ بعامة وألا يسلط عليها عدوا ًمن سوى أنفسها حتى لو اجتمع عليها من بين أقطارها أو من في شمالها إلى جنوبها، ومن في غربها إلى شرقها مهما تآلبوا وتسلطوا على أمة الإسلام، لن يستطيعوا أن ينالوا من هذه الأمة شيئاً، لن يستطيعوا أن يدركوا من هذه الأمة منالاً ماداموا مجتمعين، أما إذا تسلط بعضهم على بعضٍ من داخلهم، وإذا ثارت العصبيات فيما بينهم وهم في أرضٍ واحدة، وتحت لواء واحد، فإن هذا نذيرٌ ومهدد بقرب تسلط عدوٍ من الأعداء عليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.