للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية الالتزام بهذا الدين وتطبيقه]

المسألة الأخرى -أيها الأحبة- بعد القدوة الالتزام: لنعلم أن هذا الدين يحتاج إلى تطبيق وأنه دين عمل وليس دين كلام، لو كان هذا الدين دين كلام لاكتسح القارة كلها، لأنه لا يوجد أكثر من العرب -ولله الحمد- في الفصاحة والبيان، ولا أقول أكثر منهم في الكلام.

كما يقول شاهد القوم:

إذا خسرنا الحرب لا غرابة

لأننا ندخلها

بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة

الكلام كثير؛ لكن أين التطبيق وأين الالتزام؟ وأين البذل والتضحية؟ إذاً: فحتى نعرف واجبنا تجاه هذا الدين، وواجبنا للرقي بهذه الرسالة العظيمة ينبغي أن نطبق لأن التطبيق هو غاية العلم ومن علم ولم يعمل كان علمه بلا فائدة، والله جل وعلا يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:٦٦] فالإنسان إذا عمل بما علمه كان خيراً له، والخير جاء نكرة خيراً مطلقاً عظيماً فيفتح الله عليه فتحاً لا حدود له، بل ويزيده الله تثبيتاً لهذا الدين، وإذا أردت أن تتفقه في مسألة من المسائل فقهاً طيباً جيداً فطبقها فإن تطبيق العلم يجعله أكثر رسوخاً ويفتح عليك أبواباً أخرى.

من عمل بما يعلم شرح الله صدره وهيأه، ويسر له علم ما لم يعلم.

فهذه مسألة مهمة، واجبنا -أيها الأحبة- تجاه هذا الدين الذي كلنا نعلم عنه الكثير أن نعمل به وأن نطبقه.

الصحابة رضوان الله عليهم، وهم ثلة طاهرة نقية قليلة جداً بسيوفٍ نحيلة وبِخَيْلٍ هزيلة، مع الفقر والجوع كسروا أمماً وحضارات جعلوها تتهاوى في الحضيض تحت صيحات التكبير والالتزام العملي بهذا الدين، والاستعداد والقدرة على التضحية، حينما يشعر أعداء الإسلام أن أبناء المسلمين بلغ بهم الأمر حرقة وحباً وتفانياًَ في دينهم إلى درجة أنهم يبايعون على الموت، ويساومون على الأرواح من أجل نشر دينهم؛ عند ذلك تنتهي مخططاتهم، لأن المخطط الماسوني والصهيوني الذي نراه يسري درجة درجة، ومرحلة مرحلة في شعوب المسلمين وأبنائهم سرى أمام عنصرٍ واحدٍ وضع في الحسبان وهو أن أبناء المسلمين قد أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، ولكن يوم أن تحرك الجهاد في بقعة من بقاع المسلمين اختلفت الحسابات وانهارت المخططات، وأصبحت تظهر عليهم صور ما كانت في حسبانهم: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:٢].

كان أعداء الإسلام يظنون أن مخططاتهم وأن انتشارهم ورقعتهم وقواهم الضاربة في كثيرٍ من بلدان المسلمين تمنعهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:٢] متى؟ يوم أن تحرك الجهاد في سبيل الله.

فحينما يوجد من المسلمين أمة تبرهن وتبرز وتحقق للعالم أننا على استعداد أن ننشر هذا الدين وأن نرفع به رأساً، وأن ندعو إليه، أياً كان الثمن، كما قال رستم القائد لأميره أو لرئيسه: هل المسلمون أكثر منكم؟ قال: لا.

نحن أكثر منهم.

ولكن رستم لما جاءه أحد قادة المسلمين قال: [مال الذي تريدون؟ قال: ندعوكم بدعوة الإسلام، أن تدخلوا في هذا الدين ولكم ما لنا وعليكم ما علينا.

قال: فإن أبينا؟ قال ذلك المسلم الذي كان فقيراً ضعيفاً هزيلاً يفاوض أكبر القواد قال: تعطون الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون.

قال: وإن لم نعطكم؟ قال: إن لم تقبل بهذه ولا هذه فقد جئتك بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة.

فلما أخبر رستم أميره أو رئيسه بهذا قال: بهذا غلبوكم].

قومٌ يُربطون بالسلاسل حتى يثبتوا في أرض المعركة والقتال، وقومٌ يشترون ويشتهون الموت شهوةً ويتسابقون إليه.

فحينما نكون على درجة من الالتزام والحرقة والتطبيق والعمل لهذا الدين والله -يا أيها الأحبة- سينتشر، وكما يقول أحد مفكري الإسلام: إن البشرية لا تستجيب لمنهجٍ مقروء -الإسلام لو طبعنا منه ملايين الكتب- أو منهجٍ مسموع -أرسلنا منه آلاف الأشرطة إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها- وإنما تستجيب لمنهجٍ قد تمثل في صورة جماعة من البشر.

فإذا رأى الأعداء أن المسلمين قد طبقوا دينهم وإذا جاء أعداء الإسلام إلى أرض المسلمين فوجدوا المسلم لا يمكن أن يوجد فيه ثغرة من رشوة أو خيانة أو ضعف أو فساد أو فسق أو اختلاس أو أي جانبٍ من جوانب النقص والخزي والمحرمات والمخالفات، عند ذلك يعلمون أن هذه أمة قد أحاطت سوارها، وأحكمت إغلاقه، فلا يستطيع أحدٌ أن يدخل إليه، أما إذا وجدوا أمة قد فتحت أبوابها على مصارعها وقد رُسِّيت نوافذها مشرعة، استطاعوا أن يدخلوا مع النوافذ ومع الأبواب ويتفكهون حتى بتسلق الأسوار.

فإذا وجدت الأمة التي تكون نعم القدوة ونعم الالتزام لدينها؛ عند ذلك ترتفع بنفسها إلى كرامة أكرمها الله جل وعلا بها.

وفي المقابل فإن أي فردٍ أو أي مجتمعٍ أو أي أمة تخالف أمر الله وتسلك طريقاً معاكسة فيما شرع، والله إنها تختار لنفسها درجة مغرقة في الحضيض والهوان.

وكما يقول الحسن البصري رحمه الله: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].

ويقول جل وعلا، وقول الله أبلغ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦].

فمن نُسِّي ونَسِيَه الله فهذا هوان وهذا انحطاط، وأنت تلاحظ يوم أن ينساك أحد أحبابك أو ينساك من هو حولك ولا يلتفت إليك ولا يعبر أو يلتفت لوجودك، فإنك تتضايق من هذا الشيء وتعرف أن هذا هوان واستهتار ونقص، فكذلك من نسيه الله جل وعلا -ولله المثل الأعلى- فهو في غاية الهوان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فغاية الأمر -أيها الأحبة- أننا حينما نريد أن نرتفع بأنفسنا لا بد أن نتمسك بهذا الدين جيداً.

هذه الحياة قافلة، من الناس من يمشي حافياً، ومن الناس من يمشي منتعلاً، ومنهم من يركب دراجة، ومنهم من يركب سيارة، ومنهم من يركب طائرة، فالناس بقدر تمسكهم بهذا الدين يحددون الدرجة والفئة التي هم فيها، فمن كان متهاوناً ضعيفاً، فهو كمن يمشي حافياً لا تسأل عما يجرحه من الشوك ويعترضه من القاذورات ونحوها، ومن التزم بدين الله جل وعلا فقد اختار لنفسه درجة عالية، وبقدر ما تسمو بنفسك في دين الله جل وعلا، فأنت تختار لها مكانة أسمى وأعلى، وكلٌ يضع نفسه حيث ما شاء؛ ولكن:

وإذا كانت النفوس كباراً تعبتْ في مرادها الأجسامُ

من الناس من يقنعه حفنة من التراب، ودريهماتٍ معدودة، ودويرة صغيرة.

ومن الناس من أبت همته وشمخت عزته، فلا يريد غير النجوم مطلباً، فلا يريد غير أسمى الأماكن والدرجات العلا عند الله جل وعلا، وهي الجنة وثمنها؛ تعرفون أنه السير الحثيث: (من سار أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

المسلم الذي ترتفع به الأمم وتعز به الدول، المسلم الذي نريده في هذا الزمان: ليس ذلك الظبي الجهول، ليس ذلك المسكين الذي إذا رأى منكراً قال: اللهم حوالينا ولا علينا، كأنه امرأة رأت رجالاً، إذا رأى أمراً مخالفاً لدين الله مر وكأن الأمر لا يعنيه، أو كأن محارم الله لم تنتهك، انظروا إلى أحدهم يقطع إشارة مرورية فيسلقه القوم بألسنة حداد، ويحرقونه ويزلقونه بأبصارهم، ما هذا التخلف، ما هذه الرجعية، إشارة مرورية عنوان التقدم، عنوان الحضارة، إشارة تُفُوهِم عليها دولياً، هذا الأبله المسكين المعتوه، لا يفهم التعامل معها؟! فما بالك بمن خالف أمر الله وشرع الله؟! من الناس من لا يلتفت، وغاية الأمر كما يقول العامة: (ذنبه على جنبه) لا.

أراد أعداؤنا منا المسلمين أن يكون هكذا، السجادة ما هناك مانع، تريد أن تسبح سبح، خذ لك سبحة، اقرأ أورادك كلها، امش من البيت إلى المسجد ليس هناك مانع، لكن تريد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر! تريد ألا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً! تريد أن تكون كلمة الله هي العليا! هذا هو الذي لا يريده أعداء الإسلام، ولذلك في بعض الدول التي تحارب الإسلام عداوة وصراحة توجد بعض الجماعات التي تنتسب للإسلام، أو تدعي أنها تعمل للإسلام وما هو نوع التزامهم؟ إما على عقائد محرفة، أو على نوع التزام أو حصر مفهوم الدين في المحاريب والطقوس والعبادات المحددة، أكثر من ذلك لا يُسمح لهم بشيء.

فيا أحبتنا في الله: حينما نريد أن نسمو بهذه النفوس وأن نسمو بهذا الدين، لا بد أن نبذل ولا بد أن نضحي، ولا بد أن نقدم.