للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نوح ومحمد عليهما السلام وكيف عالجا خطر التقليد]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة.

معاشر المؤمنين! وإن مما يدرج بالتقليد ويتبع به هو انسياق بعض الناس وراء الأعراف، وجريهم وراء العادات السقيمة الضارة الفاسدة، وهو ما تعارفه الناس أو ساروا عليه من قول أو فعل أو ترك يخالف هدي الإسلام أو كماله، إن للأعراف البشرية مكانة عظيمة عند الأمم التي تسودها تلك الأعراف، ولقوة تلك الأعراف كانت قوانين تحكم بين الأمم والشعوب، وكانت جداراً صلباً صد كثيرين عن اتباع دين الله والانقياد له.

وقد قام الصراع المرير بين الشرائع الإلهية وحملتها من الأنبياء والدعاة والعلماء وبين الذين عادوهم من الزعماء وأتباع الضلالة الذين يزعمون أن تراث الآباء والأجداد هو المقدس المصان، ويأبون أن يمسه أي تغيير أو تبديل، وهنا تقف الأعراف والعوائد البشرية حاجزاً أمام دعاة الإصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحق مظلومين منبوذين لأنهم يدعون الناس إلى الرجوع إلى الدين الحق وترك ما يخالفه ولو كان من عادات الآباء وأعرافهم.

إن هذه الأعراف والعادات التي اختطها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين، باتت ديناً يتبع، وشرعة لا تخالف، وميراثاً يحرص عليه حرصاً عظيماً، يصل إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس وتهدر الأموال، وهذا ديدن أرباب الضلالة عبر تاريخ البشرية الطويل: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢].

هذه الأعراف يصنعها في كثير من الأحيان طواغيت يشرعون من دون الله، وظلمة يستبدون من بين الناس، يتنفذون في أقوامهم، ويجرون التعامل بما لديهم من النفوذ والسلطان، ومن خرج عنها آذوه وأسروه وقيدوه، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:١٣٧] هم قادتهم في الضلالة، هم قادتهم في الفساد والانحراف، فإذا قال أولئك الضلال قولاً أصبح طريقة متبعة وبذلك يشرعون، وإن كثيراً من الغوغاء والعامة لا يفقهون هذا الأمر ولا يدركونه، والله ينكر هذا بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١].

إن نوحاً عليه السلام أقام ألف سنة إلا خمسين عاماً في قومه يدعوهم إلى الله، فما الذي صدهم؟ وما الذي ردهم؟ ومن الذي حجب الهدى عن أعينهم؟ قالوا: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:٢٣] لا تدعوا آلهة عبدها الآباء والأجداد {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:٢٣] فلما رأى نوح ما فعلوا، وجرب فيهم أساليب الدعوة وألوانها قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٦ - ٢٧].

بل ومن الأمثلة التي في شريعتنا وفي ديننا: ما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، جاءهم بالحق الأبلج، والملة السمحاء، والشريعة الغراء، فنابذه العرب الِعداء، ورموه عن قوس واحدة، عذبوا صحابته، آذوه وحاصروه، وأصبحوا يقولون: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص:٦ - ٧] فاحتجوا بما كان في ملتهم الأولى وطريقة آبائهم وأجدادهم إن هذا إلا اختلاق، ولكن العرب بعد جهد شديد أبصروا الحق وأقلعوا عما اعتادوه وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، ثم علت كلمة الله واستنار الناس بنور الحق، وجاهد العرب الأمم الأخرى حتى أخرجوهم من هذه العادات التي حبستهم في قواقع الظلمات.

إن المتأمل في كثير من الأمور الشركية والبدعية سيجد أنها من الأمور المتوارثة المنقولة عن الآباء والأجداد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:١ - ٦].

لقد قامت الحجة على هؤلاء بالدعوة والحوار وبيان بطلان عادات آبائهم وأجدادهم، وهذا واجبنا أيها الأحبة أن نناظر الناس الذين يحتجون بما ألف عليه الآباء والأجداد، وأن نقول: فضلاً فضلاً، مهلاً مهلاً، رفقاً رفقاً، أعطونا عقولكم، وضعوها على ألسنتكم، وانطقوا بما تفهمونه من واقع هذا العقل، أخرجوا العقول من خزائن الجدات، وأخرجوا العقول من صناديق الأجداد، أخرجوها من الأقبية والسراديب وحينئذٍ ستفهمون الحق وتعرفونه.

إن الذين لا يقبلون الحق بعد هذا كما قلنا في أول هذه الخطبة إما يردونه لإصرار على فعل الآباء والأجداد، وقد لا ينفع معهم حوار الفكر والمنطق؛ لأن الفكر لم يدع من خزائن جداتهم ليوضع في حوار أو على ألسنتهم حال المناظرة: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:٦٢] فهم يصرون على فعل الآباء، أو أنهم يرون ضعف الداعي إليه، وأخبث من ذلك أن الذين يصرون على العادات والتقاليد الضالة المضلة لا يزال الواحد فيهم حبيباً أليفاً صديقاً جليساً أنيساً إلا إذا بين لهم بطلان ما يفعلونه فيقولون له حينئذٍ: كنا نقدرك قبل هذا والآن سقطت من أعيننا لما نهيتنا عما كنا نتبع فيه آباءنا، وإنها لنفس الحجة التي قالها فرعون وملؤه لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:٧٨].