للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خيرة خلق الله يرجون جنته]

وصف الله جل وعلا خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، أولئك الثلة الأطهار الأخيار الذين حفظهم الله وتكفل لهم برحمته، وضمن لهم الجنة، وصف ربنا جل وعلا حال أنبيائه ورسله فقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] ما قالوا: نحن من أهل الجنة، وما قالوا: قد ضمنت لنا الجنة، وما قالوا: لن نكون من أهل النار، وما قالوا: قد ضمنا الأمان من زلل على الصراط، وقد ضمنا السلامة من كلاليب جهنم، وما قالوا: ضمنا فتن القبر، أو فتن الموت، أو مضلات الدنيا، بل سارعوا وبادروا وخافوا وخشوا، النبي إمامهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيدهم، يقوم الليل حتى تتفطر قدماه مسابقةً إلى الخيرات وطلباً في الجنات، رغبةً إلى رب الأرضين والسماوات، فقام طويلاً، وتقول عائشة: [يا رسول الله أربع على نفسك] كأنها ترى أنه قد أضناه طول القيام، فيقول: (يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً).

نعم هؤلاء أنبياء الله ورسله مع أنهم في أعلى درجات الجنة، قد أكرمهم الله بجلاله، وأدناهم سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما اتكلوا على هذا، نعم، تعلقوا ورجوا، وأناخوا رواحلهم بباب رحمة ربهم جل وعلا، ولكنهم مع هذا سارعوا إلى الخيرات، واجتهدوا ورغبوا في الجنة، وخافوا من النار، وهذا الدليل، وهذه الآية أعظم ضربة قاضية، وضربة مسددة قاصمة للمخرفين الصوفية الضالين الذين يقولون: إن العبادة ليست خوفاً من النار، ولا حباً في الجنة، وإنما هي حبٌ في الله جل وعلا.

بل طوائف كثيرة من الصوفية يقول قائلهم: ربنا ما عبدناك طمعاً في جنتك، وما عبدناك خوفاً من نارك، وإنما عبدناك حباً في ذاتك، وهؤلاء خابوا وخسروا وخسئوا، فلن يكونوا أكمل إيماناً، وأفضل تعبداً، وأمثل طريقةً واستقامةً من أنبياء الله ورسله الذين وصفهم الله ورضي فعلهم فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠] يبادرون إليها، يتسابقون إليها، يطلبونها، وما كانوا يقعدون عن همم الأمور ومعالي الأفعال، لما قام القوم يحفرون الخندق ما قعد صلى الله عليه وسلم، وما جلس متكئاً واضعاً رجلاً على رجل وهو نبيهم وإمامهم وسيدهم وكبيرهم وأميرهم، بل سارع معهم حتى بلغ بهم الجوع مبلغاً، ربطوا على بطونهم حجراً، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ به من الجوع أعظم مما بهم، فربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرين اثنين، ربما فر القوم حال شدة قتال إذا حمي الوطيس، وكشفت المعركة عن ساق، وأشجع القوم، وأكرم القوم، وسيد القوم صلى الله عليه وسلم يكر ويفر ويُقبل ويُقاتل أعداء الله ويصيح وسط المعمعة: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يسارع إلى الخيرات في الجهاد، وما قعد متخلفاً عن عباد الله المجاهدين في سبيله.

يسابق في الصلاة حتى تتفطر قدماه، يسابق في الصيام حتى تقول عائشة: [ما شئنا نراه صائماً إلا رأيناه صائماً] يسابق في التواضع حتى إنه ليدني نفسه، وينزل بطول قامته ليحمل طفلاً صغيراً يتعثر على الأرض.

وربما قادته عجوزٌ إلى ناحية الطريق، فوقفت به الساعة والساعات يسمع منها تواضعاً ليقضي حاجتها.

سابق صلى الله عليه وسلم في كل خير، هكذا كما وصفه ربه جل وعلا بوصفه واحداً من أنبياء الله ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:٩٠] يرغبون في الجنة، يطلبون الجنة، يتعلقون بالجنة، يريدون رضا الله، وما قالوا: ربنا هو الذي اختارنا واصطفانا، وانتقانا من بين الخلق لنكون أنبياء ورسلاً، فقد ضمن لنا الجنة، بل سارعوا إليها وطلبوها.

جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله المصطفى -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فيقول له: (يا أعرابي! كيف تدعو؟ فيقول الأعرابي: والله يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا ومعاذ حولها ندندن).

المسابقة إلى المغفرة، المسابقة إلى الجنة، المسابقة إلى الفضل العظيم، ذلك هو الوعد الذي يعد به النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاء المهاجرون وآمنوا به وعزروه ونصروه، وبذلوا المُهج والأرواح بين يديه ما أعطاهم وعداً بإمارة، ولا بوزارة، ولا بمنصب، ولا بملك، ولا بولاية عهد، ولا بترشيح، أو امتياز، أو وكالة معتمدة، وإنما قال: لكم الجنة، إنما قال: إن وفيتم وأديتم وأعطيتم وقمتم بهذا رضاً لله، وابتغاء ما عند الله، واستجابة لأمر الله ورسوله، فلكم الجنة.

ما كان يعد إلا بما أمر الله أن يسابق إليه وهو الجنة، وكذا لما قَدم الأنصار، ما قال: لكم من الأمر كذا وكذا، وإنما وعدهم بالجنة تلك الدار التي أمر الله أن يسابق إليها: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:١٤٨].