للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مرارة الدنيا حلاوة في الآخرة لمن رضي واحتسب]

مرارة الدنيا على ما ينال العبد فيها إذا صبر واحتسب ورضي، فهي حلاوة في الآخرة، وليعلم المسلم أن مرارة الدنيا بعينها قد تكون حلاوة في الآخرة، ولأن ينتقل المرء من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة فذاك خير ولا شك؛ دل على ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا بن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال: يا بن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس ولا رأيت شيئاً قط).

إذاً: فما ينال العبد في هذه الدنيا من مرارة المصائب هو بإذن الله معوضٌ في الآخرة بخير عوض إن كان من الصابرين المحتسبين.

ثم إن العباد مساكين يطغون عند الغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦ - ٧] فلو مرت حياته من غير منغصات لأصابه من الكبر والعجب وقسوة القلب ما قد يكون سبباً لهلاكه، ولكن الله يبتليه إذا رأى منه بعداً لكي يرجع، وإذا رأى منه ذنباً كي يستغفر، وإذا رأى منه ضلالاً كي يئوب ويتوب، ولكي يسمع تضرعه وأنينه وشكواه ولجوءه إلى ربه ومولاه، فسبحان من جعل الرحمة في كل شيء حتى في المصيبة والبلاء، فمقام المحنة تتفاوت عقول الناس فيه، فمنهم من يرى بثاقب البصر والبصيرة، وبصادق العقل واللب يرى أن في المحنة منحة، ويرى أن في البلاء هدية فيصبر ويحتسب؛ وحينئذٍ يتفاوت الرجال في عقولهم وتقديرهم لما يمر بهم، تتفاوت حقائق الرجال، فمنهم من لا يصبر ويؤثر حلاوة فانية على لذة باقية، يؤثر حلاوة منقطعة على لذة دائمة، ولكن منهم من يتلذذ بشيء من المر أو من الصبر على المصيبة حتى يلقى الله موفور الأجر قد أجزل له الثواب.

قال ابن الجوزي رحمه الله: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارة بالجزع، وتارة بالشكوى، وتارة بالتداوي، إلى أن يشتد عليهم فيشغلهم اشتداد المصيبة عن الالتفات إلى المصالح الواجبة من الوصية قبل حلول الموت، أو فعل الخير أو التأهب فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها! وكم ممن عنده ودائع لا يردها! وكم ممن عليه دين أو حلت زكاة في ذمته أو في ذمته مظلمة لا يخطر له دفعها وبذلها وتداركها.

قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟ وهل ينتظر الكبير إلا الهرم؟ وهل ينتظر للموجود سوى العدم؟

على ذا مضى الناس اجتماعٌ وفرقةٌ وميتٌ ومولودٌ وبشرٌ وأحزان

ولكن حقيقة الأمر تنكشف يوم ينكشف الغطاء، فإذا وقف الناس يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الترمذي بسند حسن عن جابر رضي الله عنه قال: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب يودون لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض) مما يرون من كرامة الله لأهل الابتلاء، فمن كان مبتلى، فليحمد الله، وليرجع الأمر إلى الله مردداً {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦].

قال بعض السلف: ثلاثة تمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال، والمصيبة، والولاية.

وقال عوف بن عبد الله: الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة.

وقال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات وأشكره إذ لم تكن أعظم مما هي، وأن رزقني الصبر عليها، ووفقني إلى الاسترجاع عندها، ولم يجعل مصيبتي في ديني.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.