للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من رحيل الصالحين]

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ ذات يومٍ سورة الفجر، فلما بلغ قول الله عز وجل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] لما تلاها أبو بكر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله ما أطيب حظ من يقال له هذا! وما أحسن هذا! وما أجمل هذا! فقال صلى الله عليه وسلم: وإنك يا أبا بكر ممن يقال له هذا) وإنك يا أبا بكر ممن يُقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] لمثل هذه الحال يطيب الرحيل، ويسعد الرحيل، ويجملُ الرحيل، ويفرح صاحب الرحيل برحيله، ومع أن هؤلاء قد لقوا البشرى من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك ما غرهم، بل زادهم من ربهم خوفاً ووجلاً وإشفاقا، فلقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه الأمر واشتدت به السكرات، قالت عائشة رضي الله عنها:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فكشف أبو بكر رضي الله عنه وجهه، وقال رضي الله عنه: [ليس كذلك يا ابنتي، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩]] هكذا يرحل الصالحون، يلهجون بكلام الله وذكره، هكذا يرحلون لأن الملائكة تبشرهم برضوانٍ وروحٍ وريحان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:٣٠ - ٣١] هذه الولاية الحقيقية لهؤلاء في الدنيا ولهم في الآخرة، وماذا بعد لهم في الآخرة؟ ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

أيها الأحبة! رحيل الصالحين بحب ولذة، رحيل الصالحين عن الدنيا شوقٌ إلى لقاء الله عز وجل، واستعدادٌ ومسابقة ومبادرة، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده أن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اشتكت فاطمة رضي الله عنها شكواها التي قبضت فيها، تقول سلمى: فكنت أمرضها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وذهب علي رضي الله عنه لبعض حاجته، فقالت فاطمة رضي الله عنها لـ سلمى: يا أمة اسكبي لي غسلاً، قالت سلمى: فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت فاطمة: يا أمة! أعطيني ثيابي، قالت: فأعطيتها جديد لباسها، فلبستها، ثم قالت: يا أمة! قدمي لي فراشي وسط البيت، قالت سلمى: ففعلت، فقامت فاطمة رضي الله عنها فاضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها، ثم قالت: يا أمة إني مقبوضة الآن، إني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحد، فقبضت مكانها، قالت: فجاء علي فأخبرته بذلك، انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذا الاطمئنان، انظروا إلى هذه اللذة التي يجدونها عند رحيلهم، فليت شعري على أي حال يكون رحيلنا.

وأما رحيل الكافرين الفاجرين فهو رحيلٌ في أسوأ حالٍ وأخبث خاتمة، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:٩٣] وما ذكرته الآية يحدث أنه إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال، والسلاسل والجحيم وغضب الرحمن، من شدة الفزع والخوف والهلع تتفرق روح الفاجر في جسده وتتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، وإني لأذكر حادثةً هي مما يصنف للاستعداد للرحيل وحب الرحيل، وليست مما يذكر في الخوف، وليست مما يذكر في سوء الخاتمة.

أعرف صديقاً لنا وهو أحد الدعاة في مدينة الرياض من إخواننا الصالحين، وله أبٌ صالحٌ قد جاوز ثلاثة وثمانين عاماً، وكنت أراه وإذا سألته وقلت له: كيف أنت يا أبا عبد العزيز؟ قال: والله إني لفي أسعد حال وأطيب حال، وإني أعد نفسي من الأموات ولا أعد نفسي من الأحياء، يقول: إني أعد نفسي من الأموات وأنا أمشي على وجه الأرض، ووفاته كانت قبل أقل من سنة، يقول ولده: كان ضحىً في القرية، فاشتد به المرض فأتاه أحد أبنائه وأخذه وضمه إليه، وأراد أن يسنده إلى صدره ويتهيأ لكي يذهب به إلى المستشفى، فقال أبو عبد العزيز: لا تذهب بي إلى المستشفى هذا هو الموت، هذا هو الحق، هذا هو الحق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله إني ما كرهت هذه الساعة، والله إني ما كرهت هذه اللحظة، والله إني فرحٌ بلقاء الله، والله إني فرحٌ بلقاء الله، قال: فأخذ يردد أيماناً بكل طمأنينة وبكل يقظة وبكل لذة، يقول: والله ما كرهت هذه الساعة وأنا مستعدٌ لها، أشهد أن لا إله إلا الله، لا تذهب بي إلى المستشفى، قال: ومن الضحى وهو يذكر الله عز وجل حتى فاضت روحه حول الظهر.

الله أكبر! انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذه النفس التي تطمئن عند الوفاة، لو أن أحداً أصابه ما أصابه لقال: أين المستشفى؟ أين التنشيط الدماغي؟ أين وأين؟ ولا بأس بهذا وكلها من الأسباب؛ لكن من كان مستعداً للقاء الله، لا يضيقه أن تنزل به ملائكة الموت في أي لحظة، يقول هذا الرجل الذي ذكرت لكم قصة وفاته: ما تركت قيام الليل ثلاثاً وخمسين عاماً، وأما من بداية تكليفه إلى أن بلغ الثلاثين قال: كنت أوتر قبل النوم حتى رآني رجلٌ من الصالحين قال: يا أبا فلان أنت ممن يشار إليه، وتوتر قبل النوم! إذاً أنت لا تتهجد آخر الليل، قال: فكانت نصيحة قذفها الله في قلبي وأحدثت في نفسي استجابة، فما تركت قيام الليل منذ ذلك اليوم، قال ولده: وما عهدته يؤذن أو ينادي المنادي إلا وهو في المسجد، على ما يكون الناس فيه من حديثٍ أو قيلٍ أو قال أو مقال، إذا دنا وقت الصلاة يقول: اشتعل في قلبه أمرٌ يزحزحه ويطرده عن المجالس حتى لا تهدأ له نفسٌ ولا يقر له بالٌ، ولا تقر له عينٌ إلا إذا دخل المسجد، فمثل هؤلاء يلذون بالرحيل، ويستعدون للرحيل ونحن لا بد أن نوقن بهذا الرحيل، لا بد من استقرار هذه الحقيقة في نفوسنا، حقيقة أن الحياة محدودة مؤقتة بأجلٍ ثم تأتي نهايتنا، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون، ويموت القاعدون، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بكل ثمن، الكل يموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥] لكن الفارق بين نفسٍ وأخرى في المصير {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥].