للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شكر النعم سبب لبقائها]

فتفكروا يا عباد الله! وتذكروا هذه النعم التي تتقلبون فيها مصبحين وفي الليل، وبادروها وقيدوها بالشكر والطاعات، فإن النعم يا عباد الله! كالإبل المتفلتة فاعقلوها بذكر الله وشكره، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الذاكرين الشاكرين.

إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم

وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم

وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم

وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم

فتلك مساكنهم بعدهم شهودٌ عليهم ولا تتهم

وما كان شيءٌ عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم

فكم تركوا من جنان ومِن قصور وأخرى عليها أُطم

صُلوا بالجحيم وفاتوا النعيم وكان الذي نالهم كالحلم

إذ تأملتم هذا يا عباد الله! فلينظر كل واحد منا إلى نفسه، ولينظر إلى ضعف نفسه، ولينظر إلى عظيم نعمة ربه، ولينظر إلى جزيل فضل خالقه في هذه النفس الإنسانية على ما فيها من الضعف والجزع والهون وسرعة الزوال والفناء والفراق، كيف تشمخر نفس بني آدم؟ كيف ترتفع وتكابر وتفاخر وتدافع وتنازع؟ وكم تبني من الدور والقصور وتزرع الضياء والبور؟ وفي خضم هذا كله يصيبها الكبر في لذاتها، والعجب في ملذاتها؛ فتغمط الناس حقوقهم وأشياءهم، وتحسدهم على أرزاقهم فيها كأن الدنيا لها وليست لهم، وينسى الواحد شكر نعمة ربه عليه في ما هو ماثلٌ واضحٌ أمام عينه، وكأن الإنسان يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:٧٨] فإذا مس هذه النفس طائف من قدر الله بمصيبة صغيرة أو مرض أو فاجعة، تذكر الإنسان وصاح: يا الله! {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس:١٢] عند هذا يعود، وعند هذا تعود كل نفس، وقبل ذلك كم نسيت من الآلاء التي عقدت على حصولها بالطاعة أصدق العهود.