للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اليأس من الاستمرار على الاستقامة]

وآخر تجده قال: أوه! المسألة طويلة، وأنا ربما تقع مني زلة، ربما ربما إذا متنا الآن لعلنا نسلم منها.

لا يا أخي الحبيب! استمر والمشوار طويل طويل طويل جداً، الاستقامة ليست مرحلة جامعية (أربع سنوات) وتأخذ شهادة، الاستقامة ليست دورة عسكرية أربع سنوات وتأخذ رتبة أو نجمة، الاستقامة كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] يعني: الموت: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:١١٢] (سددوا وقاربوا).

انظر سماحة الشيخ ابن باز، هل جاءه الناس بالبشائر والأخبار السارة؟ لا.

يا شيخ المنكر الفلاني.

أعطونا نكتب.

يا شيخ صار للمسلمين مذبحة في الفليبين.

أعطونا نكتب لهم فتوى يُتَبَرَّع لهم.

وربما الشيخ يفعل أموراً لا يطلع عليها الناس، تخص جهات عليا.

يا شيخ، وقع كذا، نُشر كذا، صار كذا.

طول نَفَس.

فأنت أعطِ نفسك الاستقامة والالتزام والنَّفَس، أما أن تتراكم عليك صور الفساد والمنكرات وتتخوف، فيأتي الشيطان ويقول: مساكين، خمسمائة مطوع قاعدون في استراحة والقنوات الفضائية تبث للملايين، شيخ قاعد يصرخ في المنبر والقنوات الفضائية تخاطب مئات الملايين، شبكة الإنترنت تتعامل مع سبعمائة مليون وهذا المطوع أبو شريط، يحسب أن شريطه يصلح العالم، نعم.

إنها كلمة لكن تقلب العالم كله، النبي صلى الله عليه وسلم بم دعا الناس؟ بإنترنت؟! بقنوات فضائية؟! بمؤتمرات دولية؟! جَمَعَ مجموعةً من قريش، وناداهم بطناً بطناً، فخذاً فخذاً، قال: (واصباحاه! فجاءوا، وقال: هل جربتم علي من كذب قط؟ قالوا: لا يا محمد! ما جربنا عليك كذباً قط، قال: قولوا كلمة واحدة تملكوا بها العرب وتدفع لكم بها جزية العجم، قالوا: وأبيك عشراً -نعطيك عشراً- قال: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: تباً لك! سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟).

وانطلقت كلمة (لا إله إلا الله)، وما زالت تجوب أقطار الدنيا حتى لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله، فلماذا تيئس، هي كلمة.

إبراهيم عليه السلام لما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] قال: يا رب! من يسمع؟ قال الله: أذن وعلينا البلاغ، فجاء الناس من كل فج عميق، وعلى كل ضامر، وزرافات ووحداناً.

والله إن الإنسان إذا شاهد في التليفزيون أحياناً مشاهد الباخرات والحجاج ينزلون منها، والطائرات والحجاج ينزلون منها، والسيارات وهي تنزل بالحجاج يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، لقد نادى إبراهيم فتكفل الله بالبلاغ، أنت ادعُ إلى الله والله يتكفل بالبلاغ، لا يأتيك الشيطان ليقول لك: يا مسكين! ماذا تفعل؟! بعض الشباب عنده عدم صبر وإنما النصر صبر ساعة، يعني: حتى الفرح بنتائج الدعوة، والفرح بهداية الناس، والفرح بصلاح الخلق لا يمكن أن يتم خلال يوم وفي عشية وضحاها.

مات صلى الله عليه وسلم والمسلمون في عهده يوم موته أقل من عدد المسلمين في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر.

إذاً أنت اغرس هذه الكلمة، وبلغ وستجد من يحملها عنك.

اليوم هذا اتصل بي شاب من أمريكا من مدينة اسمها أورنج كاونت في لوس أنجلوس، يقول: أنا سمعت شريطاً لأحد الإخوان، أحد المشايخ جزاه الله خيراً، ومنَّ الله عليَّ بسببه واستقمتُ وتبتُ، وأنا مع فلان وفلان وفلان وفلان من الصالحين -وسَمَّى بعضهم ممن يعيش معهم في لوس أنجلوس - بماذا تنصحني؟ قلت: سبحان الله! هذا الشريط أنا معرفتي به قديمة، نعم.

لأنها كلمة ينفع الله بها، وتبقى الكلمة ولها قوة ولها أثر، ولا تتهاون بالكلمة، شهادة الزور كلمة، والسب كلمة، والشتم كلمة، وإفساد ذات البين كلمة، وتقوى الله وذكره كلمة، وإصلاح ذات البين كلمة، والشهادة بالحق كلمة، والدعوة إلى الله كلمة.

إذاً لا تتساهل بالكلمة، قلها مخلصاً تريد بها وجه الله عز وجل وينفع الله بها ويبلغ بها أقواماً: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم:٢٤ - ٢٥] وهذا الفرق بين الكلمة الميتة والكلمة المباركة.

حفلة غنائية يجتمع فيها خمسة آلاف، أربعة آلاف، هي كلمات، لكن تنتهي بآثار الفسق عليهم، ولم يكن لها مزيداً إلا في ضلال؛ لكن كلمة الحق بعد حين.

الآن لو تأتي لك بكلمات المفسدين وغيرهم من الكلمات القديمة من أغانيهم، لقيل: أوه، هذا قديم، هذا مات، الآن شبع منه الدود، اليوم تجد هناك أغانٍي جديدة وخرجت استريوهات جديدة، وأشياء لم نعد نعرفها، في الأول كنا نكلم الشباب، يوم أن كنا نعرف، أما الآن كبرنا وعند الشباب أشياء كثيرة الآن لا نعرفها.

لكن انظر كلمات ابن تيمية في القرن السابع ولا تزال تتجدد؛ لأنها كلمة حق وانتشرت في الماضي.

الشيخ ابن باز لما قال له أحد الموريتانيين: يا شيخ! كيف تصبر على هذا الجهد والضيوف والأعمال والفتوى والتعليم والدعوة وأنت في عشر التسعين! يقول: بعد أن ألححتُ عليه، قال: يا بني! إن الروح إذا كانت تعمل فالجوارح لا تكل.

انظر نفسك الآن حين تحضر حفل تخريجك من الجامعة لتكرم بأنك حصَّلت الدكتوراه أو الماجستير، وتقف ويُشار إليك ويقال: والله هذا فلان بن فلان يتخرج إلى آخره والله تقف ساعة لا تشعر، لأن روحك هي الواقفة وليست أقدامك، فلا تشعر بالتعب، لكن دع الإمام يقرأ: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:١] في الفجر، ستقول: لا نريد، وربما تترنح في الصلاة، لماذا؟ لأن الروح ما وقفت، وقفت الأقدام فترنَّح، نحن نريد أن تقف الروح وأن تعمل.

كلام ابن تيمية، وكلام الإمام أحمد، وكلام الحسن البصري، وكلام الله عز وجل كَلِمُه طيب، أطيب الكلام (إن خير الكلام كلام الله) - باقٍِ ومعجزةٌ تتجدد وتفجر في الناس الطاقات، وتقمع الباطل، وتحرك الشعوب، وتخمد شعوباً وتحرك أمماً، وتطفئ أمماً؛ لأنها كلمة حق.

فأنت -أخي الكريم- إياك أن تتهاون بالكلمة أو تظن أن الكلمة لا تنفع، رُبَّ مدرس يلقي كلمة في فصل فيه عشرون طالباً ثم يخرج الله من هؤلاء الطلبة داعية يغير الله به وجه أمة، وهي كلمة، وما كان لهذا الداعية أن يغير وجه أمة إلا بكلمة من هذا المدرس، فلا تتساهل أو يغلبك الشيطان في الباطل.

الحديث ذو شجون، ووجوهكم بعد فضل الله يستلهم منها المتحدث كثيراً من الأفكار والأحاسيس الطيبة.

وسؤالي وإلحاحي على الله عز وجل بمنِّه وكرمه وجوده وأسمائه وصفاته أن يبسط لي ولكم في عافية أبداننا، وسداد أقوالنا، وإخلاص أفعالنا، وسعة أرزاقنا، وصلاح ذرياتنا، وسداد أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وأسأله سبحانه أن يثبتنا وإياكم على طاعته.

ونسأله سبحانه ألا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا.

ونسأله سبحانه أن يتوفانا على أحسن حال ترضيه عنا.

اللهم توفنا على أحسن حال ترضيك عنا، شهادةً وسجوداً وركوعاً، وعبادةً، وطاعةً لك يا رب العالمين.

اللهم لا تقبض أرواحنا على فاحشة ولا تقبضها على خزي ولا تقبضها على معصية.

اللهم من كان فينا مذنباً فاغفر ذنبه واستر عيبه، ومن كان تائباً فاقبل توبته، ومن كان مفرطاً فأعنه على نفسه يا رب العالمين، ومن كان داعياً فسدده، ومن كان صادقاً فثبته يا رب العلمين.

اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.

وجزاكم الله خير الجزاء.