للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبد الله بن حذافة وثباته أمام مغريات ملك الروم]

أحد الصحابة أسره أحد ملوك الروم أو الفرس وهو عبد الله بن حذافة السهمي فلما جيء به أرادوا أن يفتنوه، قبضوا عليه، وهذا من لؤم وشؤم وخبث الكفار؛ لأنه كان معروفاً أن الرسل لا تقتل، المرسول والمندوب والسفير لا يتعرض له أحد، فجيء به ليفتن في دينه، قالوا له: تترك دين محمد؟ قال: لا.

فحثوا التراب على رأسه إهانة له، ومن الناس من تؤذيه الإهانة المعنوية أشد من الإهانة الحسية، ومع ذلك رفض، أخذوا يعرضون عليه المال، النساء، المنصب إلى غير ذلك، فرفض، فأمر ذلك الملك رجاله بأن يجمعوا ناراً عظيمة، ويضعوا فوقها قدراً كبيراً فيها زيت يغلي، قيل: ارموا بهذا الرجل في هذا القدر الذي يغلي بالزيت، إما أن يتنازل عن دين محمد وإلا فارموا به في هذا القدر الذي يغلي بالزيت، فلما جيء به إلى هذا القدر الذي يغلي بالزيت ويتقلب، بكى ذلك الصحابي رضوان الله عليه.

فقال الملك: قفوا لا ترموه، ائتوني به، قال: بلغنا أنك بكيت، أترجع عن دين محمد؟ قال: لا والله، قال: إذاً لماذا بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس كلها تموت هذه الميتة! الله أكبر، انظروا عظم الإيمان.

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

النفس الكبيرة عنيدة عظيمة قوية، لا يمكن أن تتنازل على مكافئات أو أموال أو نقود أو سيارات أو مراكب أو توافه، لا.

فلما سمع الملك قول عبد الله بن حذافة، مائة نفس تتمنى أن ترمى في القدر نفساً بعد نفس قال: إذاً تقبل رأسي وأعفو عنك، فقال عبد الله بن حذافة: وتعفو عن أصحابي؟ قال: نعم، فوافق على أن يقبل رأسه، فلما عادوا إلى عمر بن الخطاب، علم أن عبد الله بن حذافة ما قبل رأس هذا الرجل وهو يريد السلامة لنفسه، وإنما قبل رأسه من أجل إخوانه من الصحابة، فقال عمر: حقٌ على كل واحد منا أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، فجاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقبلوا رأسه واحداً بعد الآخر.

أيها الأحبة! الإيمان يثبت عند المحن، يظهر عند الابتلاء، وانظروا الفارق؛ رجل يمتحن إيمانه عند قدر يغلي بالزيت والماء، وآخر يبتلى في إيمانه إلى حد قطع الرقبة وتناوش السهام والرماح له يمنة ويسرة، وآخر يبتلى ويفتن في إيمانه عند وسادة وفراش، فهذا يغلبه الفراش والوسادة، وهذا ينتصر على القدر والعذاب والترغيب والترهيب! أيها الإخوة! الفتن ماضية، والواقع مليء بهذه الفتن، يفتن الرجل الآن في ماله، يقال له: تعال يا فلان! ومن قال لك إن الربا حرام؟ لقد لقينا الدكتور: فلان بن فلان وهو سعودي يقول: إن الربا حلال، فلا تصدق هؤلاء العلماء والمشايخ؟ فيبدأ الرجل تدخله الفتنة، فيقول: إي والله الدراهم المودعة عند المصرف الفلاني، لماذا نودعها بدون فوائد؟ فلابد من أن نجعل لها فوائد، وكما يقول الناس: (ضع بينك وبين النار مطوع) ألم يفت بجوازها الشيخ الفلاني من الأزهر وبهذه الطريقة يفتن الرجل في هذا الباب، فتغلبه فتنة الريال والدينار والدرهم، فيضع أمواله في حساب الفوائد، يصبح حساب وديعة لأجل، إما وديعة متوسطة الأجل، أو وديعة طويلة الأجل، أو وديعة قصيرة الأجل، ونسبة الفائدة بحسب مدة الوديعة، ثم بعد ذلك يأخذ منها.

ثم يقال: أي نعم، هذه هي الحياة؛ لا تتعب نفسك ولا هم يحزنون، إذا دارت السنة فاذهب لتأخذ أرباحك، واصرف على أولادك، وجدد سيارتك، وافعل هكذا وهكذا، ثم يفتن الرجل في هذا المال، فينساق لهذه الفتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله! فتن عظيمة جداً، يفتن الإنسان فيما يعرض له في هذا الزمن -خاصة الشباب- بأمور المنكرات ومقدمات الفواحش، لا نقول الفواحش مباشرة، مقدمات الفواحش؛ لأنه لا يمكن أن يقع الإنسان في الفاحشة مباشرة، وإنما تكون درجات، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢] لماذا؟ لأن الزنا لا يمكن أن يقع فيه الإنسان فوراً، وإنما درجات؛ مكالمة، ابتسام، غمز، التفات، كلام، سلام، اتصال، لقاء، ثم تقع الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يعرض على بعض الشباب فتنة بأن يسافر للدراسة في الخارج، يكون في إحدى الدول العربية في تجارة أو في علاج، يطرق الباب عليه، ثم بعد ذلك من عند الباب؟ فيسمع صوتاً ناعماً، ويعرف أنها باغية من البغايا، زانية من الزواني، فاجرة من الفاجرات، أفتح لها أو لا أفتح؟ سوف أفتح لها لأنظر ماذا تريد، أنت تعرف أساساً ماذا تريد بالضبط، يبدأ الإنسان يقلب إيمانه على جمر الفتنة، فإما أن يثبت إيماناً صحيحاً، وإما أن ينهار الإيمان، فينساق وراءها حتى يقع في الفاحشة إلى أقصى درجاتها وغاياتها.

وقديماً قيل: الزنا أول امرأة، إذا وقع الزنا بالمرأة الأولى، صار أمر الزنا هيناً، وأصبح يتفنن صاحبه فيه، ويتفنن في تدبيره والتخطيط له، والإيقاع بالنساء فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما لم تدركه توبة صادقة نصوح، والخمر أول كأس، يجلس الإنسان مجلس رجال أعمال، كبار شخصيات، ثم تدار الكأس، يا أخي! على الأقل فقط ضعها أمامك، من أجل لا يقولون: هذا معقد، أنت لا تلاحظ أنهم ينظرون إليك، يا أخي! خذ ولو رشفة واحدة مجاملة، اليوم الناس (اتكيت وعلاقات) اليوم الناس مصانعة إلى غير ذلك، وهكذا قليلاً قليلاً حتى يهون عليه أمر الله من أجل إرضاء الفساق والفجار الذين هان عليهم أمر الله، ثم بعد ذلك نسوا الله فنسيهم.

إذا نسي الله وذكر الذين أمامه أوكله الله إليهم، فقادوه إلى واد سحيق، وقادوه إلى هوة سحيقة من المعصية والضلالة، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم! يوسف عليه السلام: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] امرأة ملكة عزيزة ذات منصب وجمال، هي سيدة القصر، تقفل الأبواب فلا يمكن أن يطلع أحد، هي التي طلبته وأرادته، لو امتنع تهدده، ومع ذلك غلقت الأبواب وتهيأت وأعدت كل شيء، قال: معاذ الله! لا يمكن أن أفعل ذلك، ولذلك: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله -وذكر منهم- شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) ثبت الإيمان على جمر فتنة الجمال والإغراء والفاحشة، وغلب وسيطر فانتصر، فكان جزاؤه برحمة الله أن يكون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.