للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لذة تزول وإثم يبقى]

أيها الأحبة في الله: لقد زال ذاك العام قبل يومين ولى ومضى لكنه زال وزالت كل لذة فيه.

فأما لذات أهل المعاصي، من سهر ليلة على أضواء حمراء خافتة، والغيد والوصيفات مقبلات مدبرات، ربما شهد بعض القوم ليلة كهذه، ولكن تلك الليلة ولت ومضت وانقضت لذتها وذهبت، وبقي إثمها، ولى العام باللذات وبقيت حسرات المعصية، وشؤم الفاحشة، وبلاء المخالفة، إن هذا الرحيل عجيب، وإن هذا الفراق غريب! كم أناس عصوا ربهم في الليالي الماضية المنصرمة، واسألوا من بقي حياً: يا عبد الله! يا فلان ابن فلان! ليلتك التي عشتها، بما فيها من كأس وغانية، ومسلسل ومجلة، ومعصية وفاحشة، هل تذكر الآن من لذاتها شيئاً؟! هل تحس لمشهد من مشاهدها ركزاً؟! هل ترد لذة إلى حاسة من حواسك؟! لا والله، لقد انقضت اللذة وبقي الإثم، وبقي شؤم المعصية، وبقيت الحسرة.

وأقولها: لا تغرنك سلامة تراها في بدنك، إن للمعاصي شؤماً ولو بعد حين، إن من الناس من إذا ارتكب الفاحشة، وتقحم المعصية، على بصيرة وعلم، فمضى يوم أو يومان أو ثلاثة، ولم ير خسفاً أو مسخاً أو غرقاً أو هدماً أو حريقاً، يظن أن تلك المعصية مرَّت ولا ضرَّت، وانتهت ولا عاقبة لها، وعلى حد زعم القائل:

إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار

لا.

إن شؤم المعاصي ولو بعد حين، ومن شر شؤم المعاصي ذاك الشؤم الذي يأتي يوم أن تبلغ الروح الحلقوم، شؤم معصية يغيب عنك طيلة عمرك ولا يحضرك إلا حالة النزع ومعالجة السكرات، تريد أن تقول: لا إله إلا الله فتصرف عنها، تريد أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله فتعجز عنها، تريد أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله فتذكر غيرها.

وقيل لشاب حضرته سكرات الموت وحوله رجل فيه خير يلقنه، ويعرض الشهادة عليه، ويقول: يا فلان! قل لا إله إلا الله، فيقول الفتى: هل رأى الحب سكارى مثلنا.

ما رأى الموت سكارى مثلكم، ما رأى الموت سكارى في غفلة عن القبر والموت والضنك واللحد والحشر والنشر والصراط والحساب والعذاب، ما رأى سكارى مثل هؤلاء، أسأل الله أن يتجاوز عن الجميع وأن يتغمدنا برحمته.

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، وعافنا واعف عنا وعن إخواننا، ولا تبتلينا يا رب العالمين.

ومضى هذا العام وولى وانقضى، وقد شهد الصالحون فيها ساعات يراوحون بين الأقدام من قيام الليل، ويجعلون الأكف على البطون من آلام جوع الصيام، ويسترخون قليلاً من تعبٍ قد ينالهم وهم يتقلبون بين تلاوة أو ذكر أو عبادة، ونسألهم اليوم: يا معاشر الطائعين! هل تشعرون بآلام عبادة في عام مضى؟ هل تشعرون بشيء من التعب الذي نالك إبان العبادة في عام مضى؟ لا والله.

لقد نسيت الألم والجوع والتعب، ولكن بقي الأجر، بقي الثواب، بقي الوعد الجزيل، بقي الجزاء العظيم، بقي الخير العميم الذي ينتظرك من أعمال صالحة قدمتها فتقبلها الله بيمينه جل وعلا، وتراها يوم القيامة كالجبال.

فهنيئاً لمن مضى عمره وانقضى عامه على طاعة لله جل وعلا.

ومضى العام عليَّ وعليكم، بلذات عاقرناها، وتلذذنا بها، وانتهت اللذات وأعقب اللذة تعب.

كنا نجد لذات الأكل ولا نزال، ونجد لذات الشرب ولا نزال، ولكن اللذة في أطيب طعام نشتهيه ثوانٍ توضع فيها اللقمة على اللسان، فإذا انتقلت اللقمة إلى الجوف استوى الذين علفوا البرسيم والذين أكلوا أطيب الطعام، استقر في الجوف ولو رد ما أكلناه، ورأيناه مرة أخرى لانصرفنا وتقززنا عن رؤيته أو سماعه والنظر إليه.

إذاً: فحتى لذاتنا لذات اللحظات، لذات الثواني والدقائق، لذة الطعام أثناء وضع اللقمة على طرف اللسان، ثم بعد ذلك تنتهي إلى الجوف، وحينئذٍ يستوي طعام الفقراء والأغنياء، والملوك والعالة والصعاليك، والمدراء والوزراء، وكل غني وفقير يستوي طعامه بعد أن يتجاوز ثوان مر فيها الطعام على لسانه.

أيها الأحبة: هل هذه حياة، ودنيا يتعلق بها الإنسان في لذة لا يجدها إلا ثوان معدودة على طرف اللسان، وهل ينتهي الأمر عند هذا؟ لا وألف لا.

إذا استقر كل طعام شهي، وكل شراب مري في هذا الجوف انقلب عذاباً، وحسرة، ومرضاًَ، وسقماً، حتى نخرجه من بطوننا، فهذه لذاتنا في الدنيا، وهذه ملذاتنا في أعمارنا فهل خلقنا لهذا؟!!