للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ولادة موسى ونشأته عند فرعون]

الحمد لله معز المؤمنين، ومذل الطغاة والمتجبرين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، هو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ومنَّ علينا بالتوحيد، وفضلنا على كثيرٍ من الأمم تفضيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، أنتم اليوم في يوم مبارك من شهر الله المحرم، وهذا الشهر من الأشهر المخصوصة بالفضائل التي امتنَّ الله بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث أضاف الله هذا الشهر إلى نفسه، يقول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل) فأضافه على نفسه بقوله: (شهر الله المحرم) وهذه الإضافة لا تكون إلا لخاصة مخلوقات الله لشرفها وعلو منزلتها، فهذا الشهر مفتاح السنة، وفيه نصر الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام على إمام الكفر وقائد الإلحاد فرعون الذي طغى وعلا في الأرض، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] والذي تجبر وأدبر وتولى عن آيات الله وحجج الأنبياء، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٤] وما أكثر الفراعنة في هذا الزمان! وكان الذي يحمله على تعذيب بني إسرائيل وإهلاكهم، واستحياء -أي: استبقاء- نسائهم، وإهلاك الذكور منهم هو علمه بأنه سيخرج من ذرية إبراهيم عليه السلام غلامٌ سيكون هلاك مُلْك مصر ومَلِكِها على يديه، وشاع هذا وانتشر بين القبط، وتحدث به بنو إسرائيل، وعند ذلك فزع فرعون، وطاش ذعراً وخوفاً، وأمر بقتل أبناء بني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام بينهم، وأنى له ذلك، ولن يغني حذرٌ من قدر.

لما حملت أم موسى به خافت أن يعلم بحملها، ولم تكن تظهر عليها علامات الحمل، فيا عجباً من آيات الله ومعجزاته، ولكن أكثر الناس عن تدبر آيات الله غافلون، علامةٌ عجيبةٌ لا يظهر عليها علامات الحمل، فلما ولدت به ضاقت به ذرعاً، فألهمها الله أن تتخذ له تابوتاً، وكانت دارها على نهر النيل، وكانت ترضع ابنها، فإذا خشيت من أحد وضعته في التابوت فأرسلته إلى البحر، وفي التابوت حبل تمسكه به، فأرسلته ذات يوم، وقضت إرادة الله أن يذهب التابوت ولا يعود، وذهب فيه ولدها مع النيل، فمر على دار فرعون، فالتقطه آل فرعون، الذين يذبحون الأبناء، التقطه الذين يقتلون كل ذكر من أبناء بني إسرائيل، فلما جاءوا به ووضعوه بين يدي امرأة فرعون، وفتحت هذا التابوت، رأت وجهاً يتلألأ نوراً، فوقع حبه في قلبها.

فلما جاء فرعون ورآه أمر بذبحه، وقال: اذبحوه، أو اقتلوه، فدافعت عنه تلك المرأة، فقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص:٩] ولقد نفع الله زوجة فرعون به، وحقق الله ما رجته من النفع، فهداها الله به وأسكنها جنته بسببه.

فلما أرادوا الغذاء لهذا الرضيع والوليد، وقد حرم الله عليه المراضع من قبل، وجدوه لا يقبل ثدياً، فحاروا في أمره حيرةً عظيمةً، فأرسلوه إلى السوق يبحثون له عن مرضعة يقبل ثديها، فرأته أخته ولم تظهر أنها تعرفه، بل قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:١٢] فذهبوا به إلى منزلهم، فأخذته أمه، فلما أرضعته التقم ثديها، وأقبل على درها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وأجروا لها أجرة من النفقة والكسوة، وجمع الله شملها بولدها بقوله جل وعلا: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:١٣].