للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذم الدنيا]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل وعن الند والنظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم من الأمم، يقول تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١] ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أيها الأحبة في الله: مر معنا في جُمع ماضية الحديث عن الصبر، وأنه أنجع وأطيب علاج أمام المصائب والمحن والآلام, وتتمة الحديث في هذا الموضوع، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤] قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: روي من طريق أبي مورود سمعت الحسن قرأ هذه الآية فقال: [يكابد أمراً من أمر الدنيا وأمراً من أمر الآخرة، وفي رواية: يكابد مضائق الدنيا، وشدائد الآخرة] واختار ابن جرير أن المراد بالآية: مكابدة الأمور ومشاقها.

أيها الأحبة في الله: كلكم يعلم أنه ما من راحة تامة، أو سعادة دائمة، إلا في الدار الآخرة، دار الخلود والبقاء، وأما هذه الدنيا، فدار الابتلاء والكبد والشقاء، ومن أجل ذلك كان عيش الإنسان فيها في مشقة، ولولا ما فيها من عبادة الله، واللجوء إليه، والاستئناس والاطمئنان بذكره، لما أطاق المؤمن البقاء فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة، إذ لو صفت الدنيا لأهلها من الأكدار والمصائب لركنوا إليها واطمأنوا بها، ولما اجتهدوا في الأعمال الموصلة إلى دار النعيم والخلود المقيم، قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: يا أبتِ متى الراحة؟ فقال: يا بني! الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة! عباد الله: تأملوا هذه الدنيا وما فيها من خلق الإنسان من كبد، وهي برمتها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل ذلك لما سقى منها كافراً شربة ماء، فالاجتماع فيها مآله إلى الفراق، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فنهاية الحياة موت، وغاية الاجتماع فراق.

أما اللذات في الدنيا، من المآكل والمشارب والمناكح، فتزينها الصحة والعافية، وأكثر أرباب الدنيا وأصحاب الأموال فيها، يعانون أنواع البلاء والأمراض والأسقام، فيرون نعيماً ولذات لا يقدرون التمتع بها، وأعمار الخلائق في الدنيا محصورة محدودة الأجل، رب معمر شقي بعمره، سيما إذا كان مفرطاً فيما مضى من عمره، قيل للأعشى ميمون بن قيس، وقد بلغ من الكبر عتياً: كيف وجدت الحياة؟ فقال:

المرء يرغب في الحياة وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته وبعد حلو العيش مره

وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره كم شامت بي إذ هلكت وقائل لله دره

فلا أنس ولا لذة في الدنيا إلا بطاعة الله وذكره وعبادته، وذلك يوم أن حضرت معاذ بن جبل الوفاة، بكى فقيل له: [ما يبكيك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما والله إني لا أبكي على ملذات الدنيا وشهواتها ولكني أبكي على صيام أيام الهواجر، وقيام ليالي الشتاء، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله] ذلكم والله، هو ما يحقق السعادة ويربطها بالحياة ربطاً وثيقاً، فاجتهدوا -يا عباد الله- في طاعة ربكم ومرضاته، وتنافسوا في الأعمال الصالحة، والتجارة الرابحة، ولا تغبطوا أحداً كائناً من كان، لا تغبطوا أحداً إلا في طاعة الله، وحفظ كتابه ومرضاته، وما سوى ذلك فحطام غير حقيق بالحسد والغبطة، واعلموا أن كل من ترون في هذه الدنيا، مهما علا منصبه أو سفلت مرتبته، شقي لا محالة، شقي بنفسه أو ماله أو ولده، أو سلطانه أو فقره أو غناه، أو عزه أو ذله، إلا من شد وثاق النفس عن المعاصي والآثام، وأحكم السير وجد في المسير وأمسك بالزمام:

كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟