للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية الحفاظ على الأخوة مع المخالفين]

أيها الأحبة! يقول يونس بن عبد الأعلى المصري الشافعي رحمه الله: ما رأيت أعقل من محمد بن إدريس الشافعي -الإمام الشافعي رحمه الله- اختلفت معه في مسائل كثيرة فتفرقنا، يعني: ما اتفقنا عليها، فلقيني ذات يوم وأخذ بيدي وقال: يا أبا عبد الله ألا يستقيم أن نكون إخوة وإن لم نتفق في مسألة.

اليوم الواقع في الحقيقة يندى له الجبين، أن تجد هذا ملتحياً، وهذا ملتحياً، وهذا يتبع السنة، وهذا يتبع السنة، وهذا على خير، وهذا على خير، وربما بينهم من الفرقة والخلاف ما يجعل بعضهم لا يلقي السلام على صاحبه، ولا يشمِّته، ولا يعوده في مرضه، وربما لا يتبع جنازته، وربما أسقط حقوقه وأهدر واجبات له، وربما احتقره (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) ولم هذا كله؟ لأنه اختلف معه، وهل الخلاف مبرر لأن نقع في هذا الأمر؟ هل هذا مبرر لَأن أغمطك حقك، ولا أنزلك قدرك؟ أستغفر الله وأتوب إليه.

سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، إمام أهل السنة عن إسحاق بن راهويه وهو إمام من أئمة الحديث، فلما سئل عنه قال الإمام أحمد -مع أنه بين الإمام أحمد وبين إسحاق بن راهويه خلاف في مسائل- قال: لن يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.

فيا أحبابنا! هل نجد في أنفسنا هذه الروح؟ هل نجد في أنفسنا هذه السعة لتحمل شخصية ورأي المخالف؟ هذا للأسف يكاد أن يكون نادراً، ويصبح الاعتدال بين كثير من القضايا المتلاطمة ذات الأطراف المتباينة أمراً عسيراً حينما نحمل مثل هذه النفسية.

أيها الأحبة! إن هذه القضية: وهي عدم تصور الوفاق والاجتماع حتى مع الخلاف في بعض الآراء الاجتهادية والمسائل؛ جعل بعض شبابنا لا يبالي بإخوانه، ولا بقدرهم، ولا بمنزلتهم، ولا بمكانتهم، ولا يغار على أعراضهم، وهذا أمرٌ خطير، فالذي يتقي الله عز وجل، ربما تراه يخالف هذا الشخص، أو هؤلاء الأشخاص في آرائهم، في أفكارهم، لكنه يتقي الله في أعراضهم، ويتقي الله فيهم إذا غابوا، فيذب عنهم إذا حضر مجلساً، ولا يسمح أن يتهموا، أو أن يقال فيهم ما يقال، بسبب ماذا؟ لأن الخلاف ليس بينه وبينهم في عداوة شخصية، بل إنما الأمر يعود إلى دليل واجتماع وفكر ورأي يراه مدعماً، ويرى الآخرين يختلفون فيه، ولكنه لا يوافقهم على ذلك، فخلافه لا يبيح أعراضهم ولا يسقط حقوقهم.

ثم أيها الأحبة قد كثر الخلاف في آخر الزمان، وفي الآونة الأخيرة كثرت المسائل التي اختلف فيها فلان مع فلان، وفلان قال كذا، وفلان قال كذا، ثم أي شرخ من تصدعات الخلاف يفتح علينا شروخاً عديدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والعجيب أننا نرى دولاً تحاربت وتصارعت، ثم اصطلحت واتفقت وتصالحت! فيا أيها الأحبة! إذا كان هذا على مستوى الدول والأنظمة تقاتلت وتحاربت، ثم تصالحت وانتهت، لأجل ماذا؟ لأجل المصالح، أو لأجل القناعة بعدم جدوى العداوة، أفلا يليق بنا أن نصلح ذات بيننا، وأن نضيق هوة الخلاف؟ نعم والله أيها الأحبة، فتجد بعض الشباب يختلفون على قضية ما، ومنشأ خلافهم هو بسبب اختلاف أناس أكبر منهم فيها، اختلاف أنظمة، أو دول، أو فقهاء، وسمها ما شئت، فبعد ذلك يصطلح هؤلاء المختلفون ولا يزال هؤلاء المساكين على شجار وشقاق بينهم.

سبحان الله! أصحاب القضية اتفقوا وانتهوا، وأنت لا تزال ترفع راية الخلاف والنزاع والشجار، هذا يذكر بالطرفة التي تسمعون بها، أو تعرفونها: الرجل الذي كان في محطة القطار، ومعه ثلاثة أو أربعة يأكلون وجبة، ولما سمعوا صوت منبه القطار أخذوا يتراكضون، فركبوا جميعاً إلا واحداً رجع وهو يضحك، قالوا: لماذا تضحك؟ قال: أنا المسافر وهؤلاء أتوا ليودعوني، فالذي جاء يودع ركب القطار وذهب به، وصاحب القضية لا يزال قائماً، يعني: اقلب هذه الطرفة على هذا الواقع وستجد أصحاب القضايا الكبار الذين اختلفوا قد اتفقوا، وانتهى الخلاف فيما بينهم، لكن الذين ورثوا الخلاف لا زالوا يجترونه، ولا يدرون هل اتفق من فوقهم أم لم يتفقوا.

والسبب أن الواحد لا يفكر بعقله وإنما يفكر بعقل غيره، وقد نسي أنه يوم القيامة لن يسأل غيره عنه إلا بما أغواه فيه، أو أضله به، لكن أيضاً المسئولية والمحاسبة فردية، فنسأل الله لنا ولكم البصيرة.

ومن الأمور التي تعين أيها الأحبة: أن يلتفت الواحد إلى الدعاء والإلحاح على الله أن يهديه إلى الحق فيما يختلف فيه الناس، إن النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح دعاء القيام: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل فاطر السماوات والأرض، رب كل شيءٍ ومليكه، اهدني لما اختلف فيه من الحق، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون).