للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صدق يقين الرعيل الأول بالله عز وجل]

أمة الإسلام: إن من أعظم الفروق العظيمة التي ميزت ذاك الجيل الأول عنا برتبةٍ عاليةٍ، وجعلتنا في رتبةٍ دنيئةٍ من أحوالنا، أن أول فرق بيننا وبينهم هو: يقينهم بالله عز وجل، ليس الأمر في كثرة العبادة بقدر ما هو في قوة اليقين بالله عز وجل، وقوة الإيمان بوعده ووعيده، وثوابه وعقابه، إذا قام أحدهم يصلي قوي اليقين في قلبه، فتراه يصلي صلاة من ينظر إليه ربه، بلغوا درجة الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) تجد القلب حاضراً خاشعاً منكسراً مختباً منيباً، والقدم واقفة، واليد والجوارح خاشعة، وتجد قلباً معلقاً بالله كأن أحدهم على الصراط، وكأنه يرى الجنة والنار، وكأنه لا يرى من جبال الذنوب إلا عمله، هكذا كانوا في قوة اليقين أثناء عبادتهم وتهجدهم وصلاتهم وركوعهم وسجودهم.

ترى الواحد منهم يمضي إلى الجهاد ويعلم أن دخول المأسدة يعني يتم الأولاد والبنات، وترمل الزوجة، ويعني فراق الدنيا والرحيل عن الملذات، ولكن ما في قلبه من اليقين بأن ما عند الله له من الحور يغنيه عن الزوجات، وأن ما عند الله له من الخلف يعوض عليه ما فات في الدنيا، يسوقه ويشوقه إلى فراق هذه الدنيا حتى إن أحدهم يمل حياةً يعدها طويلةً في مدة يأكل فيها تمرات في يده، كذا كان شأن عمير بن الحمام لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في معركة أحد: ({سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:٢١] فقال عمير: بخٍ بخٍ يا رسول الله! جنة عرضها كعرض السماء والأرض؟ قال: نعم.

قال عمير: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أقبل اليوم صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، وكان في يد عمير تمرات يتقوى بهن في الجهاد، فنظر إليها في يده -لا تجاوز أربعاً أو خمساً- فقال: لئن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياةٌ طويلة) فرمى بتمراته يريد أن يستعجل الحياة، يريد أن يختصر المسافة، فشد عليهم حتى لقي كرامة الله له، كان الواحد منهم يعلم علم اليقين أن ما بعد القتل إلا الجنة، وما بعد الموت إلا الكرامة، وما بعد صرعة يصرعها يتشحط بها في دمه إلا أن ينقل إلى جنةٍ عرضها السماوات الأرض.

لما خرج عبد الله بن رواحة إلى الجهاد، وودعه من ودعه، قالوا له: تعود سالماً، قال: لا.

لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا

وضربةً بيدي حران مجهزة بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا

كان الواحد يخرج إلى الجهاد يتمنى الموت:

ألا موتٌ يباع فنشتريه وهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حرٍ تصدق بالممات على أخيه

يقينهم بالجنة كما أن يقيننا أن وراء هذا الجدار هو الشارع والطريق، يقينهم بأن لا بعد الموت إلا جنة عرضها السماوات الأرض، كان أحدهم بهذا اليقين إذا طعن ففار الدم من جوفه، قال: [فزت ورب الكعبة] والآخر يبقر بطنه، فيفوح الدم مسكاً، وتتفجر الدماء من جوفه، فيأخذها ويرفعها إلى السماء، ويلطخ بها وجهه ورأسه، ويقول: [اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى] الله أكبر! هكذا كان يقينهم بالله، أما نحن في هذا الزمان -متحدثنا وسامعنا، إلا من رحم الله- فما أضعف اليقين في نفوسنا وقلوبنا! أيها الأحبة في الله: ويقينهم حينما يدعون إلى الإنفاق في سبيل الله، هذا أبو بكر الصديق يأتي بماله كله، وهذا عمر يأتي بنصف ماله، وهذا عثمان رضي الله عنه يجهز جيش العسرة، وهذا ابن عوف يتصدق بقافلة كاملة، وهذا أبو طلحة ينفق أنفس ما عنده {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:٩٢].

كان الواحد منهم ينفق وهو يعلم علم اليقين أن ليس في آخر الشهر سجل للرواتب يوقع عليه ليقبض راتب الشهر، إنما كان ينفق ويبذل والعوض من عند الله، أما نحن؛ فإذا دعينا فمنا من يبخل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:٣٨] إذا أنفقنا أو أعطينا، فطائفة ينفقون مما يكرهون، ويتيممون الخبيث منه، وطائفة ينفقون القليل القليل وقد أعطاهم الله الكثير، وطائفة يترددون ويتلكئون مع علم كثيرٍ منهم أن آخر العام سترد عليه جبايات الإيجار، وسترد عليه مسيرات الرواتب ليقبض ماله، وليقبض عوض ما دفع وما بذل، فشتان بين يقيننا ويقينهم.

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

نعم.

لئن قلنا إن يقيننا أضعف من يقينهم، فذاك قدحٌ في يقينهم؛ لأن يقينهم لا يقارن بما نحن فيه إلا ما رحم الله وقليل ما هم.