للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إطلاق البصر]

أيها الأحبة! ألا وإن من أهم أسباب الانحراف هو: إطلاق البصر في معصية الله عز وجل، وعدم غض البصر عن النظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى: وهذا شامل لكل أنواع النظر، نظرة في الشاشة، نظرة في المجلة، نظرة إلى امرأة، نظرة إلى الأمرد الوسيم، نظرة إلى ما شئت، المهم أن من أطلق بصره في النظر إلى ما حرم الله مع قلب مريض يزين المعصية، ويخيل الفاحشة والشهوة، فإن ذلك سبب يجر إلى الانحراف، ولذلك فإن الله عز وجل قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:٣٠].

الله خبير بهذه النظرة، خبير بما يصنعون بها، خبير بأعمالهم وبما يترتب عليها، وبما تقود إليه، وبما تجر إليه {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:٣٠] تريد طهارة ونمواً ونماءً وسمواً وشفافية في الروح، غض بصرك، كما قال عبد الله بن المبارك: [اترك فضول النظر توفق إلى الخشوع] كثير من الناس يقول: أنا لا أخشع، طبيعي ألا تخشع، إذا كانت الجلسة من العصر إلى المغرب أمام مسلسلات وأفلام وصور نساء، وهذه راقصة وهذه غادية ورائحة، وهذه قد كشفت رجلها وساقها ونحرها وشعرها، ثم يؤذن المغرب وتذهب تريد أن تتذكر الجنة والنار، تريد تبكي من خشية الله، تريد أن تخشع لذكر الله وما نزل من الحق، إذا كبَّرت أعاد لك الشيطان العرض من جديد، يعيد لك المسلسل الذي رأيته العصر بعد تكبيرتك في صلاة المغرب، يعرض عليك صورة المرأة من جديد، وصورة المعاصي من جديد، وصورة الشهوات من جديد.

ولذلك من أدام وأدمن غض بصره؛ أورثه ذلك حلاوة يجدها في قلبه، وخشوعاً ولذة يجدها في صلاته بإذن الله عز وجل، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب شهوته" وسئل أحد السلف: ما الذي يعين على غض البصر؟ فأجاب: أن تعلم أن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى الحرام الذي تشتهيه.

إذا أردت أن تنظر إلى شيء نظرة حرام، فتذكر أن نظر الله إليك أسرع من نظرتك إلى هذا الحرام الذي أنت تقصده، ويذكر ابن القيم أبياتاً جميلة فيها:

يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقه إنه يأتيك بالعطب

بعض الناس يظن أنه استمتاع، ونقول: لا.

سهام البصر سهام عكسية، أنت ترمي فتعود القذيفة إلى قلبك:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

إذاً فاحفظ خيالك وبصرك وتفكيرك فإنه يجنبك الانحراف بإذن الله، وهل لك بالسلامة بدلاً من أن تمرض فتبحث عن الطبيب، وعن الدواء ومصاريف العلاج؟ أنت الآن بالخيار، إما أن تأخذ العافية مجاناً بدون تعب، وبدون ذهاب إلى الطبيب، وبدون مصاريف علاج، بمجرد الوقاية، فاحفظ نظرك؛ احفظ هذه العين تسلم من هذه الأمراض، أو تطلق البصر فتمرض، فتذهب إلى طبيب وتحتاج علاجاً ودواءً، إن درهماً من الوقاية خيرٌ من قناطير العلاج مجتمعة.

أيها الأحبة! إن حفظ الفرج مرهون بحفظ البصر؛ كما قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] قدم البصر على الفرج هنا لأن هذه الحاسة هي التي تحرك شهوة الفرج، فمن غض بصره أراح قلبه وفؤاده وفرجه، ومن أطلق بصره أتعب حواس أخرى تتبع هذه الجارحة، فحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، بل هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، غض بصر يتبعه بالضرورة حفظ للفرج، ويتبعه يقظة ورقابة واستعلاء على الشهوة في مراحلها الأولى.

عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) إذا وقعت عينك على أمر مما يحدث شهوة أو مرضاً في القلب والفؤاد والعين فعليك أن تصرف بصرك، وحديث جرير هذا رواه الإمام مسلم.

قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ولاحظ في الحديث أنه بدأ بالعين قبل كل شيء، فمن أراد السلامة من الانحراف فعليه أن يحفظ عينه، والحديث هذا رواه البخاري ومسلم.

ويعلق الشيخ الشنقيطي رحمه الله رحمة واسعة بقوله: ومعلوم أن النظر سبب الزنا، فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا، قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكناً يكون سبب هلاكه والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنا.

وقال ابن القيم رحمه الله: فبدأ -أي في الحديث- صلى الله عليه وسلم بزنا العين؛ لأنه أصل زنا اليد، وأصل زنا الرجل، وأصل زنا القلب والفرج هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه.

إذاً: فالنظرات أمرها خطير:

كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

ويقول شاعر آخر:

يا من يرى سقمي يزيد وعلتي أعيت الطبيب

لا تعجبن فهكذا تجني العيون على القلوب

كم جنت العيون على أقوام فسرقوا، إن العيون جنت على أقوام فزنوا، وأقوام فقتلوا، وأقوام فاغتصبوا، وأقوام فقطعوا الطريق، وأقوام فانتهكوا، وأقوام، وأقوام، لكن من ضبط هذه الجارحة ضبطاً إيمانياً فيما يرضي الله عز وجل، وكانت عينه سبباً لرجحان أعماله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].

في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمنْ لكم الجنة؛ اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وحسنه الألباني حفظه الله.

وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية) رواه الترمذي وحسنه الألباني.

إن من غض بصره أيها الأحبة يجد لذة وحلاوة لا يدركها إلا من عرف ذلك، أنت تمشي في الطريق فظهرت فجأة متبرجةٌ، اصرف وجهك فوراً هكذا، ثم انتظر لحظات بعد زوال هذا المنكر الذي صرفت وجهك عنه، تأمل قلبك، والله لتجدن حلاوة، والله لتجدن لذة، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، أليس شرفاً لك أن تكون من المتقين الذين يحاسبون أنفسهم في مرضاة الله عز وجل؟ أليس شرفاً لك أن تكون من الذين -بإذن الله- يصدق عليهم قول الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥].

هذه من دقائق التقوى، وحساسيات التقوى، وشفافيات التقوى، أنك فور ما تقع عينك على شيء من المحرمات تصرف بصرك بكل طواعية واستجابة لله عز وجل وفي قصيدة جميلة مطلعها:

أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا

القصيدة طويلة، لكن الشاهد المتعلق بغض البصر قوله:

وغض عن المحارم منك طرفا طموحاً يفتن الرجل الأريبا

فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا

فمن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحاً وطيبا

قال ابن القيم وهو يذكر قصة عجيبة في خطر هذا النظر، يقول في الجواب الكافي: ويروى أن رجلاً بـ مصر كان يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعلى هذا الرجل بهاء الطاعة ونور العبادة، فرقى -يعني: صعد- المنارة يوماً على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دارٌ للنصراني، فاطلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها.

انظروا مآل البهاء والورع بعد هذه النظرة؛ لأن بعض الناس فيه حماقة، تجده يذهب إلى مكان، يقول: أنا لا أقول لك أني لا أسافر، أنا أسافر لكن لا أعمل شيئاً، أنا أذهب مكان اللهو والدعارة وأتفرج وأنظر ماذا يصنعون وأخرج، أنا لا أعمل شيئاً.

فقط أذهب أتفرج، أنا لا أكذب عليك أنا أذهب وأنظر وأمشي، لكن أعوذ بالله! أنا ما أعملها.

وغيرهم يقول: أنا والله لو يعطوني وزني ذهباً -من الكلام الفارغ- أنا وأنا وأنا ما أفعل، وإنما مجرد حب الاستطلاع، والعلم بالشيء خير من الجهل به، وإلى غير ذلك من الكلام الفارغ، وفي النهاية يأتي المسكين ليمتحن نفسه، العاقل لا يمتحن نفسه، إذا قال لك أحد: هذه مجلة خليعة، ليس هناك داع لأن تقول: أعوذ بالله ما هذه الصفحة، أعوذ بالله ما هذه الثانية، أعوذ بالله ما هذه الثالثة، بل صد عينك عنها ومزقها إذا قالوا لك: هذا شريط فيه معصية، فخذه وكسره تحت إطار سيارتك فوراً، ليس هناك داع أن تقول: هات نفحص عليه، لا حول ولا وقوة إلا بالله، قبحهم ال