للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البدار البدار إلى الجنة]

أيها الأحبة: أي نعيمٍ يوم أن يكون هدفنا وغايتنا وسعينا، وصمتنا ونطقنا، وكل ما نملكه وكل ما ندخله ونخرجه يصب في أمرٍ نريده ألا وهو الجنة التي يقال فيها لمن دخلها: يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت.

أيها الأحبة في الله: يوم أن يدخل سجينٌ من السجناء زنزانة من الزنازين في جريمة من الجرائم، ثم يقال له: هذا سجنٌ إلى أبد الحياة، هذا سجنٌ مؤبد لا تخرج منه إلا يوم أن تخرج روحك من بدنك، حينئذٍ تخرج من هذه البوابة، أليست مصيبة؟ أليست بلية؟ أليست حسرةً وعذاباً؟ إذاً فالخوف من سجن جهنم والطمع في نعيم الجنة هو أولى أن يكون شغلاً شاغلاً وأمنيةً وغايةً يرددها السالك في طريقه إلى الله جل وعلا حتى ينال هذا الرضا: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ٩ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٦ - ١٠٨].

أيها الأحبة: (ألا إن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) إن هذه السلعة الغالية لا تنال بالأماني، ولا تنال بالأقوال، ولا تنال بالتحلي ولا بالتمني، وإنما تنال بالصدق، ولذلك كان الشهداء أقرب الناس إلى بلوغ الجنة؛ لأنهم أثبتوا أمنيتهم بأغلى ما يملكون، وبرهنوا أمانيهم بأغلى ما يجدون، ألا وهي دماؤهم وأرواحهم التي بذلوها رخيصةً لوجه الله، سهلةً ميسورةً في سبيل الله جل وعلا، ويقول قائلهم: إن رضي الله فليس بكثيرٍ ما ذهب وما ولى وما رحل.

أيها الأحبة: يا من تريدون الجنة! أيها الأخ الحبيب: يا من تضيق ذرعاً بشدة الحر يوم حلوله! وتضيق ذرعاً لشدة البرد يوم نزوله! وتضيق ذرعاً بامتلاء البطون من الطعام يوم أن تتخم! وتضيق ذرعاً بالجوع وآلامه وأسقامه! إن كنا نريد حياةً أبدية، حياةً لا تنقطع، جليسنا فيها من لا نكرهه ومن لا نبغضه، ومن لا يحقد علينا، ومن لا يحمل في نفسه علينا، جليسنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جليسنا فيها أبو بكر الصديق صاحب النبي على التحقيق، جليسنا فيها شهيد المحراب الإمام الأواب عمر بن الخطاب، جليسنا فيها مجهز جيش العسرة بأنفس الأثمان عثمان بن عفان، جليسنا فيها فتى الفتيان ليث بني غالب علي بن أبي طالب، والصحابة الكرام، جليسنا فيها التابعون ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، جليسنا فيها الصالحون والدعاة، والعلماء البررة، والدعاة الأخيار، هذه هي كل الأمور التي يعد بها الدعاة ويتمنونها ويرجونها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:١١١] إنها لأعظم آيةٍ فيها عجب، المعطي هو الله، ثم يعود يشتري منا ما أعطانا، والمتفضل هو الله، ثم ينعم علينا بالجنة: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ} [التوبة:١١١].

أيها الأحبة: نداءاتٌ ودعاءٌ لكل مسلم أن يسارع إلى الجنة ليعلم أن هذه الدنيا ليست لحرٍ سكناً، يقول ربنا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:١٣٣ - ١٣٦].

أيها الأحبة: هل بعد هذا الثواب من ثواب؟ هل بعد هذا النعيم من نعيم؟ هل بعد هذه الكرامة من كرامة؟

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضتِ بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن لستِ رخيصةً بل أنتِ غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خُطَّاب عنكِ وهم ذوو إيمان

أيها الأحبة في الله: إن هذه الجنة التي انشغل عن طلبها كثيرٌ من الناس بما تكفل الله لهم به، إننا نعجب من رجلٍ يشتغل ليل نهار بأمر الدنيا، ووالله لو سعى سعي الوحوش لن ينال أكثر مما قُدر له، أمرٌ قد تكفل الله به، نجد كثيراً من البشر اشتغلوا به ليل نهار، وأمرٌ دعانا الله أن نعمل له وأن نجتهد فيه وجدنا إعراضاً وبعداً عن الاشتغال به، فأي انقلابٍ للموازين هذا؟ وأي سوء في المفاهيم هذا؟