للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموت في سبيل الله]

أخيراً أيها الأحبة: إن أقرب الطرق إلى الجنة الموت، من أراد أن يختصر المسافة من الدنيا إلى الجنة فالقضية قضية التماس كهربائي، قضية اهتزاز لمدة ثوان معدودة وهي فترة خروج الروح، وبعد ذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، هذه الفترة الثواني؛ ثواني الاهتزاز، ثواني الكهرباء، ثواني التردد التي يحصل فيها هزة في لحظات بسيطة، من أصابته هذه الهزة أو هذا التردد أو هذه الموجة الممغنطة في عروقه وهي لحظة الشهادة في سبيل الله، لحظة الموت في سبيل الله التي لن يجد فيها إلا كألم القرصة، من أقرب الطرق الموصلة الموت في سبيل الله، وإن أعجب فعجبٌ ذات ليلةٍ ليست بعيدة طرق عليَّ الباب شابٌ، فقلت له: من أنت؟ قال: لن أخبرك عن اسمي، قلت له: أنا ما طرقت بابكم، أنت الذي أتيت تطرق بابي، أي خدمة يا أخي الكريم؟ قال: والله عندي حاجة، قلت: ما هي حاجتك؟ قال: والله -والرجل عليه سمة الصدق- أني أدعو الله وأرجوك أن تدعو لي، قلت: وما أنا بمجاب الدعوة أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، قال: اسأل الله أن يقطع جسمي إرباً في سبيله، قلت: أسأل الله لك الشهادة، قال: لا.

اسأل الله أن يقطع جسمي قطعة قطعة في سبيله، قلت: الآن جاءت المسألة، إذا يوجد عندنا في الأمة شباب كهؤلاء الواحد مستعد أن يقطع الأصبع الواحد من يده إلى خمس أنامل، واليد الواحدة إلى عشر قطع، والرأس إلى مئات الجرامات، والقدم إلى عشرات القطع، إذا يوجد شباب بهذه الصفة فالجنة قريبة، ولا نقول: إن الجنة لا توجد إلا بهذا الطريق، لكن نقول هذا أقرب الطرق إلى الجنة.

كان ابن رواحة كثيراً ما ينشد ويقول:

لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا

وطعنةً بيدي حران مجهزة بحربة تنفث الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا

وقول الآخر:

ألا موتٌ يباع فاشتريه وهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حرٍ تصدق بالوفاة على أخيه

الأمة تحتاج إلى أناس يشربون الموت كما يشربون الماء البارد، الأمة بحاجة إلى رجال كما قال خالد بن الوليد لـ رستم: [فإن أبيت الإسلام والجزية فقد جئناك بقوم يشتهون الموت -يحبون الموت، يتعطشون للموت، يبحثون عن الموت- كما تحبون الحياة].

إن مصيبة الأمة: حب الدنيا وكراهية الموت كما بينه صلى الله عليه وسلم في داء الوهن الذي ترى فيه كثرة كغثاء السيل، ويتسلط، ويتداعى، ويتكالب الأعداء عليها من كل جانب.

أيها الأحبة: أقرب الطرق إلى الجنة الموت في سبيل الله، وهنيئاً لأولئك الذين سالت دماؤهم على أرض أفغانستان، ويا فوز أولئك الذين بذلوا أرواحهم للجهاد في سبيل الله، وأولئك الذين جاهدوا فكتب الله لهم الحياة كما كتب لإخوانهم الشهادة، هنيئاً لهم ما بقي الإخلاص والثبات في قلوبهم.

أيها الأحبة: كنت في الجبيل من مدة فدخل شابٌ أسود اللون، ولكن في وجهه نورٌ يتلألأ، فأحببته منذ أن دخل ذلك المجلس، وما كنت أعرفه من قبل، فدنوت له، وكنت في صدر المجلس ودعوته أن يجلس بجواري، فالتفت إليه وقال لي أحد الإخوة: هذا فلان أبو الزبير من خيرة شباب جلال آباد، فقلت: ليس عجباً أن أميل إليه، وأن أحبه، وأن تميل نفسي ويهفو قلبي إليه، وأن أرى هذا النور يتلألأ في وجهه، وودعت ذلك المجلس ومن بينهم هذا الشاب ونفسي ما زالت تتذكره على كثرة من أقابل وأجالس، وبعد أيام قالوا لي: إن ذلك الشاب الأسود اللون البراق الوجه قد استشهد في سبيل الله، قلت: إذاً لا غرابة أن أحبه بلا خيار، وأن أميل إليه بلا إرادة، وأن أتعلق به بلا سابق معرفة.

أيها الأحبة: يبقى أمرٌ واحد، هل نموت في سبيل الله؟ هل عندنا استعداد أن نقدم الأرواح في سبيل الله؟ إذا وجدت أمة تلعب بالموت كلعب الورق بكل استعداد، أول ورقة في النزال الموت، ولست أدعو بهذا إلى الانتحارية، فيا صاحب الفيديو! تب إلى الله يقول: لا ما أنا بتائب، فأقوم باسم الله الموت، أدخل عليه بحزام ناسف وانتهي أنا وإياه، لا.

ليس المقصود هذا، لكن المقصود أن يوجد في النفس المفاوضة على آخر قطرة دم، بمعنى أن الإنسان بآخر قطرة دم مستعد أن يجعلها أول سعر في المساومة، إذا وجد هذا النوع من الشباب والله إن الأعداء يذلون ويهابون ويخافون، فقد قال الله جل وعلا في الكفار: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:٩٦] الكافر وصاحب البدعة ومن ليس على صراطٍ مستقيم كل أولئك يخافون الموت، لكن المسلم يقول:

أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر؟

يوم لا يقدر لا أرهبه وعن المقدور لا ينجي الحذر

إذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جبانا.

إذا كان الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، فجميلٌ جداً أن نموت ميتة الأُسُود، لا ميتة النعاج والخراف، والجبناء والضعاف.

أيها الأحبة: الموت في سبيل الله من أقرب الطرق إلى الجنة، وقضية الموت قضية ينبغي أن نبسطها بكل وضوح وبكل سهولة، من الناس من يخاف الموت خوفاً عجيباً، وأعجب من البعض، الجمعة الماضية خرجت من المسجد فإذ بي أجد شاباً، قلت له: أعطني يدك، قال: إلى أين؟ قلت: إلى المقبرة، أحد جيراننا فلان هو من أهل الإحساء ومن جيراننا في الرياض توفي، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة ونعم الجار، ما علمت عنه إلا خيراً، فأصابه حادث سيارة توفي إثره، قلت: نصلي الجمعة ونذهب نشهد جنازته إن أدركناها وإلا نصلي على قبره ثم نعود أهله فنعزيهم فيه، فقال: والله يا أخي! أنا أخشى من المقبرة، أخشى من الموت، قلت له: فقط هذا الدور وتعال اركب، فذهبنا أنا وإياه، قلت له: تخاف من الموت؟ قال: نعم، قلت له: أي شيء من الموت تخاف؟ أي: ما هي المشكلة في الموت؟ تخاف من الموت يأخذك هنا مع الرقبة، وإلا مع الرجل، وإلا مع الظهر، ما هي المشكلة في الموت؟ الموت ظاهرة طبيعية، كما تخرج الفرخة أو الصوصة من البيضة، الموت خروجٌ من بيضة الدنيا إلى عالم البرزخ، الموت ظاهرة طبيعية جداً جداً، فهذه الدجاجة حينما تبيض بيضة، الصوص الموجود في البيضة يفرخ، يخرج من البيضة، سواء كان في محضن أو في فقاسة حرارية، أو كان في غرفة نوم أو في عش، أو كان في نافذة، سوف تنكسر جدران هذه البيضة الكلسية، ويخرج منها هذا المخلوق، فأنت سوف تنكسر عنك بيضة الدنيا وتنتقل إلى عالم جديد، فما هي المشكلة في الموت؟ المشكلة ليست في الموت، المشكلة مشكلة ما بعد الموت، المشكلة مشكلة الانتقال من الضوء إلى الظلام، الانتقال من السعة إلى الضيق، الانتقال من الأنس إلى الوحشة، الانتقال من الري إلى الظمأ، من الشبع إلى الجوع، هذه المشكلة، فمن كان جاداً في خوفه من الموت، فليقدم على الموت حتى تكفر ذنوبه، ويشفع في سبعين من أهل بيته، ويلبس تاج الوقار، ويرى مجلسه من الجنة، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، هكذا من خاف من تلك المصائب بعد الموت، فليقبل على الموت، واحرص على الموت توهب لك الحياة، وإلا لم نجد تفسيراً بدون الرغبة في الموت، لا نجد تفسيراً لتصرفات الصحابة، أحد الصحابة طعنه مشركٌ اسمه جبار بن سلمة، طعنه طعنةً تفجر الدم من جوفه، فأخذ الصحابي يصرخ ويقول: [فزت ورب الكعبة] فارتعد الكافر، جبار بن سلمة ووقف مشدوهاً: رجلٌ أطعنه طعنة من ظهره بالسيف ثم يصرخ ويقول: [فزت ورب الكعبة] فكانت سبباً في إسلام جبار بن سلمة، دعاةٌ حتى آخر قطرة دم، دعاةٌ إلى الله حتى في النفس الأخير، وآخر من الصحابة يطعن وتبقر بطنه، فيغرف الدم من جوفه ثم يصبه على رأسه، ويمسح به وجهه ويقول: [اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى] هذه فلسفة الموت، فلسفة الموت عملية طبيعية، ربما الإنسان يجد في عملية زائدة، أو في أي عملية جراحية آلاماً أشد من آلام الموت، لكن المصيبة مصيبة الذين يموتون على المعاصي، تشدد عليهم آلام الموت وسكراته، وأما الذين يموتون مقبلين في سبيل الله فأولئك لا يجدون من آلام الموت إلا كما يجد أحدنا من ألم القرصة.