للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[حقيقة الموت]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين! هناك ساعةٌ يحب ذكرها الأخيار، ويشتاق لما بعدها الأبرار، ويكره سماعها المترفون والفجار، هناك ساعة لا بد لكل عبد أن يلجها وأحداثها، وما قبلها وما بعدها، وربما كانت بدايةً إلى خلود أبدي، وربما كانت نهاية إلى شقاء سرمدي، تلكم ساعة لا يغفل عنها العقلاء، ويتذكرها أولوا الألباب، ويستعد لها أولو الحجى، وتلكم ساعة يغفل عنها الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، وأعطوا النفوس أمانيها، وأسلموها لأهوائها، وانقادوا لشهواتها.

هذه الساعة يا عباد الله! جاء جبريل عليه السلام مذكراً إمام الذاكرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول الحبيب المصطفى: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).

أيها الأحبة! لا أظن واحداً منكم قد خفيت عليه بعد هذه الساعة، فهي ساعة المنية، فهي ساعة الأجل، وهي ساعة الموت، يوم يبكي الأحباب، ويعجز الأصحاب، ويحار الأطباء، ويطرق العقلاء، ويدرك القوم أن الذي بين أيديهم ليس له نجدة، وليس لرقبته خلاص، ولا لأمره فكاك؛ إلا برحمة من الله ثم ما قدمه من عمل صالح.

في تلك الساعة يستوي من يموت في قصر منيف، أو يموت في حجرةٍ ضيقة، ويستوي من يموت وقد خلَّف أموالاً طائلة، وربما سعد من مات ولم يخلف ريالاً ولا ديناراً، يستوي من يموت وحوله ولد وزوجة، ومن يموت وحوله حشم وخدم، إذ الكل عاجز أن يقدم لهذا الطريح شيئاً.

كتب الموت على الخلق فكم فل من جيش وأفنى من دول

أين نمرود وفرعون ومن ملك الأرض وولى وعزل

إنه الموت:

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب

ونبني القصور المشمخرات في السما وفي علمنا أنا نموت وتخرب

أيها الأحبة في الله! الموت على وضوح شأنه سرٌ من الأسرار تحير به الألباب، وأذهلت به العقول، واندهش له الأطباء.

الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذكر في قوم فيهم بقية من إيمان إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العبرة، وأحسوا بالتفريط، وشعروا بالتقصير، فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم.

ألا وإن نسيان الموت وتناسيه، وكراهة ذكره والتشاغل عن أمره بلاء عظيم، وشر مستطير، فما نسي الموت أحدٌ إلا طغى وبغى، وما غفل عن الموت امرؤ إلا غوى، وحري بكل مسلم أن يتذكره، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات).

الموت: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] أمر كتبه الله في هذه الدنيا، حتى نشتاق إلى دار لا موت فيها: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:٤٢] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:٣٤] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].