للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع مدرس التربية الخاصة]

هذه وقفة مع مدرس التربية الخاصة أقول فيها: إذا علمت ذلك فتأمل وتأكد أنك كغيرك من المعلمين، لا شك أنك قدوة يتأثر بك من حولك، ويتلقى عنك، فاتق الله واجتهد أن تكون قدوة حسنة صالحة في كل أحوالك، وخاصة أمام طلابك ممن يحتاجون إلى تعليم خاص، أو هذا النوع من التعليم.

لا تظن أن هذا الذي يحتاج إلى مهارات متقدمة في التعليم الخاص معناه أنه قاصر الإدراك، ومن ثم لا يتأثر بأستاذه وبمعلمه، إن البهائم تتأثر وهي البهائم بالاختلاط والمخالطة، فما بالك ببعض الطلاب الذين لديهم نوع قصور في بعض الجوانب، هل نظن أنهم لا يتأثرون؟

الجواب

لا.

الحقيقة أنهم يتأثرون، ومن هنا تتضاعف المسئولية، والأمانة الملقاة على عاتق مدرس ومعلم التربية الخاصة، ليتق الله في هؤلاء.

ثم ليجعل معلم التربية الخاصة أمام عينه أنه معلم يحتسب الأجر في التعليم الذي لا يتقنه كثير من المعلمين.

قد يكون الطالب السوي أمام معلم مهمل في المدارس الابتدائية العادية، لكن هذا الطالب قد يعوض إهمال معلمه بتعليم خصوصي أستاذ خصوصي، دروس خصوصية، أو تعليم في البيت، أو قدرات ذاتية، أو وسائل تلقين وتعليم أخرى، لكن الطالب الذي يحتاج إلى تعليم خاص إذا أهمل معلمه فلا يوجد في البيت متخصص في التعليم الخاص، ولا يوجد في كثير من الوسائل الإعلامية وغيرها ما يعين على تعليم هذا الذي يحتاج إلى هذا النوع.

ولذا تكون المسئولية على معلم التعليم الخاص في الحقيقة أكثر، لكن معلم التربية الخاصة لا يعوض جهده شيء من تعليم أسرة أو قدرة ذاتية، فالطالب الذي يحتاج إلى التعليم الخاص إذا أهمله معلمه أو لم يلتفت له، فقل: عليه السلام.

ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته

ومن لم يذق مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته

هنا مسألة مهمة، وهي دور الأسرة في الرعاية والمعاملة لهذا الذي يحتاج إلى هذا النوع الخاص من التعليم.

فبعض الأسر ربما أشعروا ولدهم أنه فرد عادي كسائر أفراد الأسرة، ويعطونه ما يتحمل من المسئوليات، ويخاطبونه بما يفهم من أنواع الخطاب، ويكلفونه بما يطيق من أنواع التكاليف، ومن ثم يشعرونه أنه قريب إلى الأسوياء، إن لم يكن يرى نفسه سوياً كالآخرين، فلا يجد أي عقدة تواجهه في تعامله وسلوكه وتصرفاته.

ولكن في الحقيقة بعض الأسر إما بسبب الإهمال والاحتقار، أو بسبب مزيد من الدلال والخوف، أشعروا ولدهم بواحد من هذين السببين، أو بهما مجتمعين أو متفرقين ربما أشعروه أنه مصيبة نزلت عليهم، وأنه بلوى لا يجدون لها خلاصاً إلا بنقله إلى المقبرة، وأنه حالة عجز لا تقاوم ولا يستفاد منها بأي حال من الأحوال.

ومن هنا فإني أقول لأولياء الأمور: أنتم مسئولون في هذا الجانب، أشعروه بما يستطيعه ويطيقه من تكاليف، ويستوعبه من خطاب أنه سوي إن لم يكن قريباً من السوي، أما أن نعامل البقية معاملة السوي، وهذا الذي عنده نوع نقص معين قلنا عنه: مجنون، ناقص عقل، ودائماً هذه العبارات التي يسمعها منا هي في الحقيقة تجهض كل بدايات تتوجه في عقله نحو الانطلاق والانفتاح والاستيعاب والفهم.

وأذكر ذات مرة أني رأيت فلماً مترجماً فيه امرأة تحكي قصة تعاملها مع ابنتها التي ليست فيها إعاقة واحدة بل عدة إعاقات، لكن هذه البنية لديها قدرات ممتازة، وتفهم الخطاب، وتستجيب، ولديها تفاعل، وعندها هوايات معينة.

ففي هذا اللقاء تسأل المرأة قيل لها: كيف استطعتِ أن تبلغي بهذه البنت هذا المستوى الذي ربما بعض الأطفال الأسوياء لم يبلغوه حتى الآن؟ -مقارنة بالعمر الزمني والعقلي إذا ناسبت بينهما- فتقول: كرست لها أمرين: أعطيت لها من وقتي كل يوم جزءاً، وأعطيت جميع أهل البيت الأوامر الصارمة في احترامها والتعامل معها قدر الإمكان كأنها سوية، ومن ثم استطعنا أن نرتقي بقدراتها.

يا إخوان! البهائم لها تصرف معين، لكنها إذا علّمت بطريقة معينة تعلمت، لا يمكن أن تجدوا -وأجلكم الله- حماراً أو بقرة أو ناقة أو جملاً يشتغل في السقي والحمل وغير ذلك من أول وهلة، هذا لا يقارن ولا ينسب إليه، ومع أنها بهائم وعجماوات تعلم وتعسف، ثم تتقن العمل تماماً، الآن هناك جهود ودراسات لمحاولة التخاطب والتعامل والاستفادة من الدلافين في البحار، ولعلها تكون وسيلة لتوجيه بعض السفن الكبيرة لتفادي الشعب المرجانية في بعض المواقع حتى لا تغرق ولا يحصل لها مشكلات كبيرة.

انظروا إلى درجة عقول الغرب، وهؤلاء كما قال الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧] إذا كان هؤلاء يريدون أن يتعاملوا حتى مع البهائم ليستفيدوا من أكبر قدر ممكن من طاقاتها، يوجد -مثلاً- في بعض البلاد كلاب متخصصة لقيادة العميان، تجد شخصاً كفيفاً ومعه كلب يقوده، يقف عند الإشارة ويعرف الإشارة متى تكون خضراء ويقطع به الإشارة، ومتى تكون حمراء، لكنه لا يعرف إذا صارت صفراء أنه يستعجل ويقطع به، لا.

الحاصل أنهم استغلوا حتى البهائم للاستفادة من أعلى قدر ممكن من استيعابها واستجابتها لتوظيف هذه القدرات في خدمة الإنسان، فنحن من باب أولى أن نستفيد من توجيه الإنسان وتنمية طاقاته لكي يفيد نفسه أولاً، ولعل أن يستفيد المجتمع منه ثانياً.

ولأجل ذلك فإني أكرر النصيحة لشريحتين، شريحة المعلمين وشريحة أولياء الأمور أن يلتفتوا إلى هؤلاء الذين يتلقون هذا النوع من التعليم والرعاية، فلا يعاملونهم معاملة النقص والازدراء، وليتقوا الله في سلوكهم وتصرفاتهم أمامهم، ولا يجمل ولا ينبغي بأستاذ أن يدخن سيجارته أمام طلابه إذا كان مبتلاً بالتدخين، فإذا بليتم فاستتروا، وأسأل الله لنا وله الهداية.

أشياء أخرى كثيرة كل ما تراه نقصاً أو عيباً فتجنبه حتى وإن كان هذا ممن تراه ناقصاً في الإدراك، أو تظن أنه لا يستوعب كثيراً، وأظن أن معلمي التعليم الخاص أدرى مني بدقائق هذه الأمور.

يذكر أحد الكتاب يقول: أن ملكاً من الملوك كان له وزير، وهذا الوزير عنده فراسة عجيبة جداً، فأهدي لهذا الملك صقر -طير من الطيور الجارحة التي تصيد- فتقبل الملك هذه الهدية، وسأل الوزير قائلاً له: ما رأيك في هذا الصقر؟ قال: هذا الصقر جيد، حر، لكن هذا الصقر قد تربى مع الدجاج، فعجب الملك وصمت، وأدخل هذا الصقر مع الطيور التي عنده.

وبعد أيام أهدي إلى الملك حصان، فدعا وزيره وقال: ما رأيك في هذا الحصان الذي أهدي إلينا؟ قال: هذا حصان جيد وممتاز ومن سلالة أصيلة، ولكنه تربى مع أبقار.

استغرب الملك، الصقر مترب مع دجاج! والحصان تربى مع أبقار! من أين يأتي بهذا؟ هذا يوحى إليه؟ أم عنده خيال؟ فبعد زمن دعي الملك إلى وليمة، فجيء بالوزير، قال: ما رأيك في هذه الوليمة؟ قال: هذه خراف لذيذة ولا تزال صغيرة، لكنها ترضع من الخنازير، فجن جنون الملك، وأمسك به وبتلابيبه، وقال: تعال، إما أن تخبرني عن قصة هذا الصقر الذي تربى مع دجاج، وهذا الحصان الذي تربى مع بقر، وهذه الخراف التي رضعت من خنازير، أو أنك ساحرٌ أو تدعي النبوة.

قال: لا.

أما الصقر فرأيته منذ أهدي إليك، نظرت إليه في القفص، كل الصقور التي عندك على أوتار، أما هو على الأرض ينقر في الديدان وفي الأرض كما تفعل الدجاج، وهذا يدل على أنه منذ صغره تربى مع دجاج فأخذ طباعها، فانظر كيف تتأثر البهائم ببعضها، والطيور تتأثر ببعضها وتتحول، فلو أتيت بحيوان من فصيلة ما، وجعلته مع حيوانات من فصيلة أخرى، فإنه ينسى كامل صفاته وخصائصه، ويقلد خصائص وصفات وتصرفات الحيوانات التي هي من الفصيلة الأخرى.

قال: حسناً، وقصة الحصان؟ قال: أما الحصان، فنحن نعرف أن الأحصنة تتنظف بأسنانها، أما هذا فيلحس بلسانه يميناً وشمالاً، وليست من عادة الأحصنة أنها تفعل هكذا بالجدران والأجسام وغير ذلك.

قال: وأما الخراف؟ قال: أما الخراف فرأيت اللحم طبقة من شحم وطبقة من لحم، وطبقة من شحم وطبقة من لحم، وهذا لا يكون إلا في الخنازير، فأيقنت أنها قد رضعت منها، فاكتسبت صفاتها.

الشاهد من القصة: إذا كانت البهائم تتأثر بعضها ببعض، فمن باب أولى ألا نظن أن من يحتاج إلى التعليم الخاص، مسكين أبله معتوه لا يفهم ولا يتأثر، لا.

يتأثر في تصرفات وحركات دقيقة من أستاذه ومعلمه، ومن أسرته وبيته ووالديه، هم لا يظنون أنه يتأثر بهم، من هنا فلا بد أن نتفانى في رفع مستوى الأداء للنهوض بالعملية التربوية، بتكاتف جهودنا وتعاوننا، والاهتمام بوقت هؤلاء الذين جعلهم الله عز وجل أمانة في أعناقنا، ولأن الوقت الذي نقضيه في هذا المعهد هو في الحقيقة ملك لهؤلاء، فلا يجوز أن نسلبهم من أوقاتهم شيئاً، وأن يتواصى بعضنا بعضاً، يتواصى المدرسون بعضهم مع بعض، ويتواصى الأولياء والمدرسون جميعاً على العناية بأولادهم.

وأكرر ادفعوهم دائماً بالحب والاحترام والتشجيع، وإياكم والتحقير والاستهزاء ونظرة الازدراء، فإنها تقتل المواهب وتجهض الطاقات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.