للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرحيل بين مراتب اليقين]

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيرا، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله الله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب أن يجعل للحاضرين والحاضرات في هذا المكان من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة.

اللهم لا تدع لي ولهم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها وأعنت على قضائها، اللهم لا تدع لهذه الوجوه ذنباً إلا غفرته، ولا تدع فيهم تائباً إلا قبلته، ولا لأحدٍ منهم ميتاً إلا رحمته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحةً وهبته وأسعدته يا رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه.

أحبتي في الله! نهاية هذا العام وأفول شمسه، ساقطة في مغيب بحر التاريخ، إشارة إلى الزوال والرحيل والفراق من هذه الدنيا، ورحيل هذا العام يذكر لا محالة برحيل الجميع، يذكر لا محالة برحيل العافية عن الأبدان، ورحيل النور عن الأبصار، ورحيل الكلمات عن الألسن، ورحيل السمع عن الآذان، ورحيل النبض عن الأفئدة، ورحيل الخفقات عن القلوب، ورحيل الحركات عن الأطراف والجوارح، رحيل هذا العام ورحيل كل عامٍ يذكر بأننا كما عشنا ورأينا وعلمنا وعرفنا الحياة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؛ فسوف نذوق الفراق حق اليقين، بعد أن عرفناه علم اليقين وعين اليقين، نحن الآن نعيش في هذه الحياة، والحياة بالنسبة لنا علم اليقين، فنحن نرى الأحياء ونرى أنفسنا، ونعيش الحياة حق اليقين؛ لأننا نرى الحياة في جوارحنا وأبداننا وحركاتنا وحواسنا وفي ذواتنا وما خلق الله فينا، فإن هذه الحياة نعيشها بعلم اليقين وحق اليقين، وكما عشنا الحياة علماً وعيناً وحقاً، فسوف نعيش الفراق علماً وعيناً وحقاً.

أما الفراق بعلم اليقين: فنحن نعلم أننا نفارق أقواماً.

وأما الفراق بعين اليقين: فإننا فقدنا وما عدنا نرى، بل دفنا ووارينا أحباباً وفارقناهم.

وبقي الفراق بحق اليقين: وهو أن نذوق الفراق، وأن نتجرع ذلك الفراق، ولا بد لنا من ذلك شئنا أم أبينا، طال بنا الدهر أم قصر

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح

كل بطاحٍ له يوم على الدنيا بطوح

لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح

رحيل هذا العام يذكر برحيل الصالحين، ويذكر بالأسى على فراقهم، ورحيل هذا العام يذكر برحيل المجرمين، والعبرة بزوالهم، ورحيل هذا العام يذكرنا بحتمية فراقنا وزوالنا وانتقالنا من هذا الدار.

هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقربُ

رحيل هذا العام أيها الأحبة في الله! يذكرنا بما قاله حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، وقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) رحيل هذا العام يقول للسادرين: لا تفرحوا بمرور الليالي والأيام:

يسر المرء ما ذهب الليالي وإن ذهابهن له ذهابُ