للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عزة المسلم ورفعته في إيمانه وتوحيده]

أيها الأحبة: عزتنا ورفعتنا وعلونا وشموخنا هو إيماننا وتوحيدنا وإسلامنا، من أسلم وآمن فقد علا وارتفع علواً يرفعه عن حياة أذلاء الأصنام والأوثان، الذين يخضعون لها، إن أي مسلمٍ هو في قمةٍ وعزة، وأي كافرٍ فهو في منتهى الذلة، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١] إذا أشرك تنازل عن عزته وعليائه، وتأمل كيف قال تعالى: {خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:٣١] لأن الإسلام نقله من حضيض الغبراء إلى شامخ العلياء، ولأن الإيمان يرفع المؤمن من مزبلة الوثنية إلى مقامات الإيمان والدين، نعم.

المؤمن في السماء علواً ورفعة وعزة، ولكن حينما يتنازل المؤمن عن إيمانه، وحينما يخدش إيمانه ويجرحه ويرتكب ما يقدح في إيمانه فهو يتنازل عن عليائه وعزته بقدر ما يرتكب من خدوشٍ أو تكسيرٍ في جدار إيمانه {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١] إن هو ضل عن الإيمان ضلالاً كاملاً، إنسانٌ لا قيمة له، ذليلٌ أمام الخميلة والخميصة والمرأة والشهوة والخرافة، ليست العزة صراخ، وليست العزة كلمات وليست العزة صيحات وشعارات.

إن العزة أن تتزخرف لك امرأة ذات منصبٍ وجمال، فتقول: إني أخاف الله رب العالمين، إن العزة أن تكون الأنهار من الأموال تجري من تحتك وأنت عطشان جائع، فتقول: لا آكل إلا ما أحله الله.

إن العزة أن تلبس الخلق من الثياب وأنت مسئول عن خزائن اللباس الجديد فلا تسرق من اللباس متراً.

إن العزة أن تتصرف ولا حسيب ولا رقيب عليك فتجعل ربك رقيباً حسيباً، وتقول: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] من أراد الرفعة فليطرق باب الله العزيز القوي المتعال.

ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

إن مقام العبودية يحمل معنى العزة والرفعة، وإن الهروب من العبودية يعني الذلة والهوان للأعتاب والأحجار والأوثان، وكلما بعدت عن طاعة الله فأنت ذليلٌ بخلق الله، وكلما بعدت عن مرضات الله فأنت ذليلٌ لشهواتك وملذاتك.

أيها الأحبة في الله: لقد صدق ابن القيم رحمه الله حيث قال:

هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان

إن الإيمان هو الذي أعز ورفع وأعلى أمةً كانت شراذم مشتتة فجمعها، ضعيفة فقواها، جاهلة فعلمها، ذليلةً فأعزها، لقد نقلها من الذلة إلى العز، ونقلها من عتبات اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ومن يغوث ويعوق وسواع ونسر وغيرهم إلى منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] إن الإيمان وعزته هو الذي جعل بلالاً العبد الأسود سيداً يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم خشخشت نعليه في الجنة، ليكون مؤذن الإسلام الأول الذي تحفظ الملايين اسمه وتحب لونه، ما الذي رفعه؟ إن بلالاً لا يملك شجرةً طويلةً ولا لوناً ولا جمالاً، لكنه يملك شجرة الإيمان وجمال التقوى، يملك لا إله إلا الله، العلم سبيل العزة والرفعة والكرامة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١] التقوى: هي العزة والكرامة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩] إن هذا القرآن الذي بأيدينا، وهذه السنة التي هي مدونةٌ محفوظةٌ بحمد الله، وهي ذكرٌ لنا، وسمعةٌ طيبةٌ لنا، وهي عزٌ لنا {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:٤٤] يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخري).

أيها الأحبة: كم من أقوامٍ عاشوا في عزةٍ واهمين، فلما سطعت بروق عزة الإسلام والمسلمين جعلتهم في حضيضٍ من الذلة والهوان، عن جبير بن نفيرٍ قال: [لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! تبكي في يومٍ أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: يا هذا، ما أهون الخلق على الله، بينما هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى].

نعم.

إنه يدرك ما أصاب هؤلاء، إنما هو بسبب تركهم أمر الله، يقول تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} [غافر:٢٩] هذا الرجل الصالح والعبد الصالح يبين لقومه أن الذلة والسقوط من العلياء إلى الهوان، وأن الانتقال من العز والتسلط والملك في الأرض إنما هو بسبب الإعراض عن هدي الله وشرعة {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:٢٩].

إن الإسلام حينما دعانا إلى العزة هدانا إلى أسبابها وبين أسبابها وذكر موانعها، ومن أسباب العزة للمسلمين: الجهاد، وإن ما نراه من ذلة المسلمين اليوم هو أن الجهاد لم يقم على الوجه الذي شرعه الله (ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا أو ذُلوا) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).

أيها الأحبة: إن هذا الدين يعلمنا العزة في كل أحوالنا حتى في الدفاع عن أدنى حقوقنا، إن المدافع عن نفسه وعرضه وأهله شهيد، كل ذلك ليقوى جانب العزة وليضعف جانب الذلة وليزول جانب الهوان، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة:٢٩] {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤] {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:١٤] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:٣٩] كل ذلك حماية للوطن وللأنفس وللدين قبل ذلك وللمجتمع، جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

ليس من المستساغ أن يفرط المسلم في عزته وإبائه، أو يرضى بالذل أو القهر والهوان، إن المسلم لا يخشى فقراً، إن المسلم لا يمكن أن ينال ذلة أو أن تقع به الذلة، إذا كان مؤمناً حقاً لا يخشى ذلةً، وإن كان فقيراً لا يملك شيئاً، ولا يخشى ذلة وإن كان يواجه تسلطاً، ولا يخشى ذلة وإن كان ليس له حسبٌ أو نسبٌ أو مرتبة أو جاه، لأن العزة في هذه القلوب:

فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني

تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني