للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دور المجتمع المحيط بالفرد في التربية]

حينما نرى جنوحاً أو شذوذاً في تصرفات طفل من الأطفال، هذا التصرف هل هو مولود معه؟ حينما يكون التصرف شاذاً، حينما يكون سلوكه نشازاً بين سائر زملائه وإخوانه، هل يمكن أن نقول: إن هذا التصرف الذي فيه جنوح، ولد مع هذا الطفل الذي بلغ السادسة أو السابعة أو العاشرة، أو دون المراهقة؟ كل مولود يولد على الفطرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) والفطرة بمعناها الصحيح هي فطرة الإسلام بكل ما جاء به الإسلام من الآداب، الفطرة على توحيد الله جل وعلا، وما ينبني على ذلك من آداب وأحكام (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه) إذا كان يهودياً فالولد ينشأ ويتخرج ويكبر يهودياً: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه) إذا كان يعيش في أسرة مجوسية، فالشاب يكبر وينمو مجوسياً (أو ينصرانه) فإذا كان المجتمع نصرانياً؛ فإن هذا الشاب يكبر وينمو نصرانياً، ولم يجئ في الحديث قوله: أو يسلمانه أو يمسلمانه، لأن الإسلام هو أصل الأمر الذي نشأ عليه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠].

الناس فطروا حنفاء، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (خلقت عبادي كلهم حنفاء) على الحنيفية التي تقر بوحدانية الله ووجوده، وصرف جميع أنواع العبادة له لكن: (فاجتالتهم الشياطين) إذاً الأجواء والأوضاع التي تحيط بمجتمع أو فرد أو أمة من الأمم لها دور في تغيير سلوكها وتصرفاتها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:١٧٢] في تفسير الحديث، وفي بيان هذه الآية، إن الله جل وعلا أخرج ذرية آدم من أصلاب الرجال كأمثال الذر، واستشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.

إذاً فكل واحد منا قد شهد سلفاً، وفطر -أيضاً- على وحدانية الله جل وعلا، وعلى هذا الدين، لكن من قدر له أن يعيش في مجتمع المسلمين تكون حياته إسلامية، ومن قدر له أن يعيش في مجتمعات اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرهم، فتكون بيئته وسمته وصبغته مجوسية أو يهودية أو نصرانية.

هذا فيما يتعلق بالأصل، وبالقاعدة العريضة أن الجميع حنفاء وأهل فطرة وموحدون، لكن ما الذي طرأ؟ ما الذي حدث؟ هذه الأسرة التي احتضنت تلك النطفة، إما أن تكون أسرة احتضنت النطفة من أول يوم ألقيت في رحم أم مؤمنة، إما أن تكون وضعت على ذكر لله جل وعلا: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) من تلك اللحظة، وأثر الشريعة والملة والدين يبدو جلياً واضحاً على هذه النطفة التي تنمو في جوف تلك المرأة، والتي وضعها ذلك الرجل حلالاً، قد اتبع ما جاء وما طلب في ذلك من أوراد وأذكار.

ثم ماذا؟ هل غذيت هذه النطفة بالحلال أم بالحرام، فإن غذيت بالحلال، فهي لازالت تسير على خط سليم، فإذا ولدت فأول من يصرخ في وجه المولود الشيطان، ولذا يستهل المولود صارخاً، ثم بعد ذلك لا يترك فقيل في يومه أو في ثالثه، وعلى أكثرها في يوم سابعه، يؤذن في أذنه اليمنى ويسمى، وقضية الإقامة محل بحث ونظر.

إذاً منذ نعومة الشعر والأظفار، وهذا الجنين وهذه النطفة ترعى رعاية دقيقة حتى تكبر رويداً رويداً، والطفل أيضاً يكتسب اللغة اكتساباً، ويكتسب أيضاً جملة من الأمور التي يشاهدها، لذا ترى كثيراً من أبناء المسلمين ليس أمر الصلاة عجيباً أو غريباً لهم؛ لأنه على فطرة في مجتمع مسلم، ومنذ أن ينشأ وهو يرى أمه وأباه وإخوانه في صلاة وعبادة.

إذاً فهو ينشأ على هذا المنوال، وعلى هذا المسلك، فلا حاجة إذا بلغ أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، في حين أن التكليف والمحاسبة والحساب على الذنوب، والحساب على ما يؤمر به وينهى عنه، إنما يكون بالبلوغ، بعلاماته المختلفة بين الذكور والإناث، لكن لا نحتاج في يوم من الأيام أن نقول له: اشهد أن لا إله إلا الله فقد بلغت التكليف؛ لأن هذه الشهادة وجملة من الأمور والواجبات والمنهيات قد اكتسبها وعرفها، وحصل عليها من واقع الأسرة التي يعيش فيها، فإذا عاش حميداً في أسرة مؤمنة صادقة، بدأ يكتسب إلى جانب اللغة الطباع والأخلاق والمعاملة.

اللغة اكتساب: أنتم تلاحظون في أي بيت فيه خادمة، فإنها تحدث الطفل بالإندونيسية فيفهمها، ونحن لا نعلم، كلم أي طفل من الأطفال بالفليبينية أو بالإندونيسية: أغلق الباب تجده يغلق، افتح الباب يفتح، افعل كذا يفعل، لا تفعل كذا لا يفعل.

الطفل لديه اكتساب على أدق دراسة ثلاث لغات في مرحلة واحدة.

إذاً فليس عجيباً أن تكون قدرة الاستيعاب والاكتساب لدى الأطفال قوية، فمادام يكتسب ثلاث لغات في آن واحد، والعجيب أن الطفل حينما يأتي عند أمه وأبيه يعرف ماذا يصلح لهم من اللغات فيكلمهم، وقد تخاطبه الخادمة أو يخاطبه السائق بلغة أخرى معينة فتجده يتخاطب معه، ويعرف أنهم لا يتحدثون إلا بهذا، وهؤلاء لا يتحدثون إلا بهذه اللغة.

إذاً نحن نظن أن هؤلاء الأطفال بلهاء، وأنهم عاجزون عن كثير من الأمور، والله الذي لا إله إلا هو إن الأطفال ليدركون أموراً قد لا يدركها بعض كبار السن، مادام الأمر كذلك ولديهم القدرة على استيعاب هذا المقدار المتباين في الخطاب واللغة والضمير والعبارة، إذاً فالطفل قادر على أن يكتسب ما هو أكبر من ذلك.