للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة لعجوز مقعدة عابدة]

وأذكرُ لكم قصةً لعجوز أعرفها جيداً لأنها جدتي، أسأل الله أن يتغمدها برحمته؛ تعلمتُ منها شيئاً كثيراً، وقد علمتني شيئاً من الفقه درسته وما فقهته وعلمتني إياه لما تخرجت من المعهد العالي للقضاء، جئت إليها وهي في سجادتها، قلت: يا أماه ادعُ الله لي ألا أكون قاضياً أعرف من نفسي أني لا أصلح لهذا، وأما القضاء فهو منصبٌ خيرٌ طيبٌ مبارك، هنيئاً لإخواننا الذين صبروا وصابروا وثبتوا ورابطوا من أجل نفع الإسلام والمسلمين فيه، فلما قلتُ لها: ادعٌ الله لي ألا أكون كذلك، قالت: يا مجنون! -بهذه العبارة- دراستك طيلة هذه السنين ما نفعتك، استغربت! وقلت: وماذا أنتظر أن تقول؟ قالت: لا أدعو لك بما تريد أسأل الله أن يقسم لك الخيرة المباركة من أمر الدين والدنيا.

سبحان الله العلي العظيم! أريد شيئاً، ولكن خيرة الله هي خيرٌ لي مما أريد، فكانت دعوةً مستجابة، ولله الحمد والمنة.

كانت تلومنا نور الله ضريحها، وقد أقعدت أربع عشرة سنة، تزحف آخر الليل على يديها وركبتيها إلى الحمام وربما غسلت بالماء البارد في الليلة الشاتية لتصلي آخر الليل، وتصلي وتوقظ جدي الذي تجاوز المائة وتوفي من سنواتٍ قليلة، فيتهجدان، ثم تنادي وتصيح: يا فلان يا فلانة وربما تصفق بيديها، فإذا نزلنا وسلمنا عليها تقول: كل الليل تنامون؟ هل أنتم مرضى؟ ثم تردد أبياتاً علينا من الشعر العامي تقول:

يا نايم الليل كله ترقد ولا فيك عله

لزماً تزور المقابر وترقد الليل والنهار كله

نعم.

تنكر علينا أن ننام الليل، تقول: لماذا هذا النوم كله؟ هل أنت مريض؟ هل أنت عليل؟ ستزور المقبرة وتنام ليلاً ونهاراً طويلاً، أسأل الله أن يجمعنا بها وإياكم في الجنة.

لما كنتُ صغيراً أنا وأخي تعطينا المال لكي نشتري بها الكتب، إذا قلنا: نريد مالاً، لا تعطي، لكن نريد نشتري كتباً تخرج المال وتعطينا، وزيادةً على ذلك تقول بالعبارة العامية: "جعل العدو عينك، من يستطيع أن ينفع الناس ويبخل بذلك".

أيها الإخوة! نحن بحاجة أن تتعلم الأمهات اللائي بلغنَ الأربعين والخمسين الدروس والمثل والقيم، وحسن التربية وحسن الأداء والتوجيه، لكي تصنع الرجال، الرجال لا يصنعون في الجامعات والمدارس والمعاهد:

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ

أيها الإخوة! أحد الإخوة يقول عن خالةٍ له: كان كفنها عندها تحمله حيثما ذهبت ورحلت وسافرت، ومعه حنوطها، وكل ما يلزم لتكفينها وتغسيلها قال: منذُ عشرين سنة، وهي تدور بكفنها، بأي مكانٍ ذهبت تذهب به استعداداً للموت، ولا يفارق الموت بالها (أكثروا من ذكر هادم اللذات).