للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصحة والفراغ]

أيها الأحبة: في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ) وهذا الحديث الصحيح فيه من معنى الحديث الذي هو موضوع المحاضرة: (صحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك).

إذاً الصحة والفراغ نعمتان عظيمتان وإن كنا كثيراً ما نسمع على ألسنة الشباب قولهم: هيا بنا نحل مشكلة الفراغ، ونقضي على مشكلة الفراغ، ونتأمل مشكلة الفراغ، النبي يقول: الفراغ نعمة وليس بمشكلة كما يقول القائلون، ولاحظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصحة والفراغ نعمتان عظيمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس) كثير جداً يغبنون في هذه النعمة، فدل ذلك على أن القليل من الناس هم الذين لا يغبنون في الصحة بمعنى: يسخرونها في طاعة الله، قليلٌ من الناس هم الذين لا يغبنون في الفراغ فيسخرون فراغهم لطاعة الله، نعم الفراغ هو إناء الأعمال، الوقت هو زمن العمل أو هو وعاء العمل، فهذه ساعةٌ أنتم جلستم الآن في هذه المحاضرة تسمعون الكلام تذكرون الله تسبحونه تنزهونه تكبرونه وتصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الساعة بالضبط الآن فيها شابٌ يبيع في محل الفيديو، وفيها شاب يتعاطى المخدرات، وهذه الساعة فيها رجلٌ الآن يبيع في البنك ويشتري بالودائع والفائدة، وهذه الساعة هناك من يبيع ويشتري أسهم البنوك الربوية، وهذه الساعة فيها من يمشي إلى معصية، وهذه الساعة فيها من يراود على معصية، وهذه الساعة فيها من يجاهد نفسه عن معصية الله، وهذه الساعة فيها معتكفٌ في بيتٍ من بيوت الله، وهذه الساعة فيها طائع لله جل وعلا، إذاً فالزمن هو وعاء العمل، ساعةٌ فيها من يعصي الله وفيها من يطيع الله، لكن من عصى مغبون؛ لأن الساعة ولت، هل يستطيع الآن واحد منكم أن يمسك دقيقة حتى لا تفلت؟ هل يستطيع إنسان أن يمسك ثانية من الوقت؟ أبداً

يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا

الواحد منا يفرح أن ينتهي الشهر يقول: الحمد لله اليوم ثلاثين يصرفوا له الراتب، نعم إنهم صرفوا الراتب ولكن صرف من عمرك شهر، اذهب إلى صندوق الدفع وهو القبر لترى ماذا صرفت هذا الشهر فيه، أنت تفرح أن مضت خمس سنوات حتى يخرج اسمك في صندوق التنمية العقاري، نعم اسمك أنت في الدفعة التي ستخرج الآن، أنت في الدفعة التي سيؤخذ ما عندها من القمح أو البر، ولكن أنت في الدفعة التي دنا أجلها وستموت في ذلك اليوم الذي قدر لها.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً] أي: فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.

الأصل أن المسلم لا يعيش فارغاً، فإما يكون في عبادة، وإما أن يكون في مباحٍ يفضي إلى عبادة، أو يقوي على عبادة، فالذي يجلس في المغرب في حلقة تحفيظ القرآن، أو في المحاضرة، أو في ندوة، أو في كلمةٍ نافعة، فهذا يؤجر بإذن الله، والذي يبيع ويشتري في دكانه ثم يجني أرباحه آخر النهار، فيكفل يتيماً، أو يجهز غازياً، أو يحفر بئراً، أو يتصدق، أو يغيث ملهوفاً، أو يفرج كربة، فهو أيضاً في مباحٍ جمع به مالاً قاده إلى عبادة، لكن الذي ليس في عبادة وليس في مباحٍ يعين على عبادة ماذا يفعل أيها الأحبة؟ ثم اعلموا أنه ربما حصل للإنسان صحة ولم يحصل له فراغ، وربما وجد فراغاً لا صحة فيه، فأنت ترى المرضى الذي لهم في المستشفى ست سنوات وثلاث سنوات وسبع سنوات لا شغل عندهم، ولكن فراغهم هذا بسبب زوال صحتهم، فهل فكرت يوماً ما أنك الآن في نعمةٍ عظيمة بإمكانك أن تستغل الدقائق والثواني والساعات والأيام قبل أن يهدمك الموت، وينقلك إلى دارٍ قريبةٍ، وما أكثر من تراهم كل يومٍ يحملون على الأكتاف

هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربٌ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب

ونبني القصور المشمخرات في السما وفي علمنا أنا نموت وتخرب

وقال الآخر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها

إذاً الآن اجتمع لكم الصحة الفراغ فاغتنموها يا عباد الله.

إن الذين يرقدون على الأسرة البيضاء في المستشفيات فارغون لا شغل لهم، ولكن فراغهم لزوال صحتهم وعافيتهم، يتمنى الواحد أن يقوم من الشلل أو من الفشل، أو من البلاء أو من السقم والمرض ويعبد الله ليل نهار ولكن هيهات، إن ابن آدم ظلومٌ كفار قال تعالى في شأنه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:١٢].

خذ هذا المثال: شابٌ قوي البنية مفتول والعضلات، طويل عريض ضخماً أصابه ذات يوم مرض الزائدة -قطعةٌ صغيرةٌ في أسفل بطنه- فأخذ يتلوى ولا يستطيع أن يقف، كان سابقاً يقف نافخاً صدره مصعراً خده ينظر إلى الناس بنصف عين من شدة ما في نفسه من القوة والعافية وربما بطرته العافية، فلما أصابه أمرٌ من أمر الله ومسه الألم ما استطاع أن يقف، وأنتم تعرفون أن صاحب الزائدة لا يستطيع أن يقف هكذا بل يتلوى ويمسك أو يضع يده على أيسر بطنه ثم يتلوى ويصيح أو ينوح يريد الوصول إلى المستشفى، يريد أن يشق بطنه، يريد أن يقبض على هذه الزائدة وسط لحمه ودمه ثم تقطع وتجرح بالمشرط ثم يخيط بطنه كما يخاط السقاء والوعاء.

هكذا شأن الإنسان إذا أصابه البلاء: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} [يونس:١٢] لما شفي وعوفي وزال عنه المرض وولى البلاء: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:١٢] بعد ذلك إذا جاءت الممرضة حاول أن يلمس يدها، حاول أن ينظر إليها، حاول أن يضاحكها، حاول أن يكون له معها شأن، سبحان الله! لما جيء بك على السرير وأنت داخلٌ المستشفى تقول: يا ألله آه يا رب عالجوني اقطعوا هذه الزائدة شقوا بطني شرحوني افعلوا بي ما تشاءون، ولما عادت العافية: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:١٢] لماذا أيها الحبيب؟ لماذا أيها الأخ؟ لماذا هذا شأنك؟ ألا تعرف ربك إلا في الشدة؟ (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) تعلق بالله في الرخاء ينفعك في كل حينٍ وفي حال شدتك أيضاً.