للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستعداد لهذا الرحيل والسفر الطويل]

أحبابنا! أيها الإخوة! أيها الجمع الكريم! ألا نستعد لهذا الرحيل؟ ألم يأمرنا ربنا بأن نستعد ونعمل؟ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٣] ألم يأمرنا نبينا بالمبادرة؟ فقال فيما رواه أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً -أو قال: يمسي مؤمناً ويصبح كافراً- يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه مسلم.

ألا نعمل قبل الرحيل؟ ألا نعمل قبل حلول الخسارة؟ {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:١٥] ويقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:٤٥].

أيها الأحبة! من خرج في سفرٍ من أسفار الدنيا بغير زاد، ندم حيث يحتاج إلى الزاد فلا ينفعه الندم، وربما هلك، فكيف بمن رحل في سفر الآخرة مع طوله ومشقته بغير الزاد، فقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول وهو يتهجد الليل: آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، فإذا شكا من قلة الزاد مَنْ زاده كثير، فكيف يقول من لا زاد له؟

يا جامع المال ما أعددت للحفر هل يغفل الزاد من أضحى إلى السفر

فأين العمل؟ وأين التزود للرحيل؟ يروي أحد أصحاب محمد بن واسع قال: لما ثقل محمد بن واسع وحضره الموت، كثر الناس عليه في العيادة، قال: فدخلت، فإذا قومٌ قيام وقومٌ قعود، وآخرون داخلون وخارجون، فأقبل عليَّ، وقال: أخبرني ما ينفعني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غداً وألقيت في النار؟ سبحان الله العلي العظيم! ذلك دأبهم، وذاك تهجدهم وصيامهم وإخلاصهم واقتداؤهم وجهادهم، وبذلهم وإنفاقهم ودعوتهم، ومع ذلك يقول: ما يغني عني هؤلاء إذا أخذ بناصيتي وأخذ بقدمي غداً وألقيت في النار؟ ثم تلا هذه الآية {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:٤١].

قال ابن المنذر: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، قال: كرر ذلك ستين مرة، وكان في خلوة أسمعه ولا يراني.

فيا أيها الموقنون بالرحيل! يا أيها الذين تعلمون أنكم قادمون على الرحيل! {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:١٠].

ويا أيها الموقنون بالرحيل! يا أيها الإخوة! ويا أيها الأخوات! {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:٥٥ - ٥٨].

جهل أناسٌ حقيقة الدنيا وغاية وجودهم فيها، فتاهوا حيارى، وضاعوا في منحنيات الطريق، فلم يفيقوا إلا وملائكة الموت تسُل أرواحهم، عند ذلك تذكروا، والألم يعصر بالنفوس، والحسرة والندم تعصر القلوب، لقد تذكروا العمر المنقضي فيما لا يفيد ولا يجدي، فتأوهوا التأوه الذي لا يغني، وعلموا أنهم ضيعوا الحياة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].