للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال السلف عن الرحيل وحقائقه]

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، ويقول أيضاً: الناس على هذه الدار على جناح سفرٍ كلهم، وكل مسافرٍ فهو ظاعنٌ إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة، إنما هو ظاعنٌ إلى الله تعالى في حال سفره، ونازلٌ عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠].

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة له: تفكروا يا عباد الله! فيمن قبلكم أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد نسوا ونسي ذكرهم، فهم اليوم كلا شيء، فتلك بيوتهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً.

وأين من تعرفون من أصحابكم وإخوانكم، وقد وردوا على ما قدموا فحلوا الشقاوة والسعادة؟ إن الله ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسبٌ يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه به سوءاً إلا بطاعته، واتباع أمره، وإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.

وقال عبد الله بن المفضل التميمي: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله فأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإنما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يومٍ وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدعٍ من الأرض، ثم في بطن الصدع غير ممهدٍ ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقيرٌ إلى ما قدم أمامه، غنيٌ عما ترك بعده، وعن مجاهد قال: مررت مع عبد الله بن عمر فقال: يا مجاهد! يا خربة أين أهلك؟ قال: فناديت يا خربة! أين أهلك؟ ما فعل أهلك؟ فلم يجبني أحد قال: ثم تكلم ابن عمر وقال: ذهبوا وبقيت أعمالهم، وعن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا وقف على خربة أي: على الأطلال، قال: يا خربة! أين أهلك؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوات وبقيت الخطيئة، يا بن آدم ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.

إن الرحيل أيها الأحباب! حقيقةٌ مرةٌ قاسيةٌ رهيبة، تواجه كل حيٍ فلا يملك لها رداً، ولا يستطيع لها أحدٌ دفعاً، وهي تتكرر كل لحظة، يواجهها الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الملوك والوزراء، الأمراء والفقراء، يقف الجميع منها موقفاً واحداً، لا حيلة لا وسيلة لا قوة لا شفاعة، لا دفع ولا تأجيل، الكل مرجعهم إلى الله، فما لهم مرجعٌ سوى هذا المرجع، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إذاً يكون في العمل والنية، وفي الاتجاه والاهتمام، أما النهاية فواحدة، الموت في الموعد المحتوم والأجل المقسوم، قال الضحاك بن مزاحم: قال عبد الله بن مسعود: ما منكم إلا ضيف، وماله عارية، والضيف مرتحلٌ، والعارية مردودة إلى أهلها.

فما أهل الحياة لنا بأهلٍ ولا دار الحياة لنا بدارِ

وما أموالنا والأهل فيها ولا أولادنا إلا عواري

وأنفسنا إلى أجلٍ قريبٍ سيأخذها المعير من المعار

أيها المنهمك في الدنيا! أيها المكب على غرورها، المحب لشهواتها، الغافل قلبه! لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإذا ذكر بالموت كرهه ونفر منه، أولئك الذين قال الله فيهم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:٨].

أيها الأحباب! الذي يعطى منكم أرضاً، فيسورها ويغرس فيها شجراً، ويحفر فيها بئراً، ويبني فيها داراً، ويطيبها ويزينها ويعدها تجده يشتاق إلى البقاء فيها، ويكثر الذهاب إليها، ويدعو الناس إلى ضيافته فيها، ويكثر الحديث في المجالس عنها، لا شغل له ولا هم إلا الحديث عن استراحته أو عن أرضه التي اعتنى أو تعب فيها، وأما الذي أوتي أرضاً فلم يسور فيها ولم يحفر بها بئراً ولم يغرس بها شجرة فلا يبالي أن تكون موقعاً للغربان على الجيف، ولا يبالي أن تكون مرتعاً للكلاب، ولا يبالي أن تكون موضعاً لرمي الزبالات والقمامات والأوساخ فيها، فما الذي جعل الأول يشتغل بهذه الأرض، وجعل الثاني لا يبالي بما يوضع فيها؟ الأول زينها وعمرها فأشغلته فاهتم بها، والثاني ضيعها ولم يهتم بها فلم يبال بما يوضع فيها، فكذلك هي الآخرة بالنسبة لنا، الآخرة أرضنا، من زرع في آخرته شجراً، من غرس في آخرته غرساً، من حفر في آخرته الآبار، من بنى في آخرته داراً، أشغلته وأهمته وذهب كل يومٍ إليها واستعد لها، وحدث الناس بها، واهتم بها وجعلها همه، وأما الذي لا يهتم بآخرته، فلا يتمنى أن يسمع عنها كلاماً ولا يرغب أن يسمع عنها حديثاً، ولا يدعو أحداً إليها، ولا يهتم بها، فهل أيها الأحبة! نفطن لما نحن قادمون عليه، إن الرحيل مصيبة.