للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تسلط الذنوب والمعاصي]

فأولها تسلط الذنوب والمعاصي على كثير من أبناء المسلمين ورجالهم، وعدم الخوف والمبالاة من شؤم وعقوبة الذنوب والفواحش، بل أصبح الكثير منهم يردد قول القائل:

إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار

يعني: إذا لم تصبك بلية الذنب فوراً، فإنك قد نجوت من شؤمه وبليته.

لا والله، بل إن هذه الذنوب والفواحش خاصة الآثام والمنكرات الجلية، الظاهرة العلنية، التي هي أعظم سبب في وهن الأمة، وأعظم سبب في هلاكها ودمارها بصريح قول الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥].

رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها

إذا ماتت القلوب وأصيبت بالوهن وتعلقت بالدنيا وخافت وارتجفت من الأجل، فذلك بسبب ذنوبها ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد بين ابن القيم رحمه الله أن للذنوب شؤماً وآثاراً وخيمة ومضرة، وذكر أن أقل ما فيها أن الذنوب تضعف صاحبها وتورثه الذلة والخيبة، وعدم الجرأة إلى غير ذلك من آثار الذنوب، التي من أخطرها أنها تجعل النفس تخون صاحبها في أمس حاجة ولحظة يحتاج إليها.

إذاً فمن أعظم أسباب الوهن الذي حل بأمة الإسلام الذنوب، وحتى لا نتكلم عن كوكب آخر أو جماعة أخرى نتحدث عن أنفسنا وعن واقعنا ومجتمعنا، وعن مجتمعات المسلمين بالتبع، يظن كثير من الناس حينما نحدثه أو يتحدث أحد معه عن الذنوب، يظن أنه قد خلي وسلم من هذه، فإذا رأيت سماعه، فإذا اللهو يملأ آذانه، وإذا رأيت ما ينظر وجدت الأفلام والمسلسلات تشغل جزءاً كبيراً من ليله ونهاره، وإن ذهبت تنظر معاملته وجدت الخيانة أو الرشوة، وأخطر منها الربا الذي هو أخطر حرب تواجه الأمة به ربها، نخاف أن ندخل في حرب مع الأعداء، ولكن نسينا أننا لم نبالِ بحرب دخلناها مع الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩].

هل تحتاج هذه الحرب من الله ورسوله إلى صفارة إنذار؟ هل تحتاج إلى علامات الإنذار الشامل في الأفق؟ هل تحتاج هذه الحرب إلى علامات تسبقها أو اجتماعات؟ لا.

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:١٢٢] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:٨٧] إذا توعد الله بشيء فإنه يتحقق لا محالة.

أقول -أيها الأحبة-: لما كانت الذنوب والآثام والمعاصي والمنكرات من أسباب الوهن الذي حل بالأمة، فإننا ينبغي أن نسأل أنفسنا -لو نظر كل شخص منا إلى نفسه لوجد عدداً من الذنوب التي يرتكبها يومياً، ومع ذلك تراه كأنه لم يفعل ولم يقع في مخالفة مع الله جل وعلا- ينبغي أن نسأل أنفسنا: من نعصي؟ ومن نخالف؟ إننا نعصي رباً الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، لقد غابت عن الأذهان والعقول عظمة الله جل وعلا، هانت على النفوس المعاصي، ولو قلنا لأحد الناس: يقول فلان بن فلان: ممنوع التجاوز في هذا الشارع، لقال: ومن هو فلان؟ نكرة لا يعرف، فليس حقيق أن يُمتثل لأمره أو يُزدجر عن زجره، أو يُتبع لما أمر به، لكن لو قلنا: قال المسئول الفلاني في الدائرة الفلانية: إن هذا أمر ممنوع لقال: نعم.

لأنه يعرف أن ذلك المسئول رجل في موقع وله مكانة وهيبة، ويتبع من خالفه بالعقوبة.

لو قلت لكم: إن قوة تستطيع أن تجمعكم جميعاً يا من أنتم في هذا المكان في قبضة يدٍ واحدة لقلتم: هذا أمر عجيب! وأي قوة هذه؟ ومن نحن على تعددنا في هذا المكان بالنسبة لسكان المدينة كلها، نحن جزء يسير من سكان المدينة.

وأقول هذا المثال وأردده، وبالمثال يتضح المقال حتى ندرك العظمة، نحن خلق عظيم، ولا يستطيع أعظم الناس أن يجمع خمسة أو ستة منا في يد واحدة، هل نحن فقط من يسكن في مدينة الرياض؟ لا.

بل هناك رجال ونساء وبهائم ونباتات وحيوانات، مليئة بها المدينة، وهل مدينة الرياض كل الكون؟ لا.

هي جزء من المملكة، والمملكة أشبه ما تكون بقارة حفظها الله بالإسلام، هذه القارة مليئة بالجبال والصحاري وعلى حدودها المحيطات والبحار وفيها ملايين البشر، هل نحن كل الكون؟ لا.

المملكة جزء من قارة آسيا، وقارة آسيا فيها مئات الملايين من البشر، وهل قارة آسيا هي العالم كله؟ لا، هناك قارات أخرى -أيضاً- مليئة بالبشر ومن معهم من المخلوقات والجبال والبهائم والنباتات والحيوانات.

إذاً: الكرة الأرضية مجموع مليء بالمحيطات والبحار والأنهار والجبال والبشر إلى غير ذلك اسمعوا قول الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:٦٧] إذاً نحن نعصي رباً عظيماً، ولو أدركنا سر العظمة لما تجرأنا على الإصرار على الذنوب والمعاصي، لو أدركنا حقيقة العظمة، لما تجرأنا على الذنوب والمعاصي، آخر ما سمعت في عالم مراكز المعلومات أن جهازاً يستطيع أن يتلقى ستين مليون معلومة خلال عشر دقائق، أو أقل من ذلك، ما هذا الجهاز الذي يتلقى ستين مليون معلومة خلال هذه الفترة القصيرة؟! إنه جهاز غريب وعجيب ودقيق.

أين نحن من قول الله جل وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:٤٩]؟ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، أما أجهزة المعلومات فتنتهي لو انقطع عنها التيار، وأجهزة المعلومات قد تضيع شيئاً من المعلومات.

إذاً: أين نحن من إدراك سر العظمة؟ إن كلما تكتشفه دول الغرب، وكلما تنتجه أمم التقدم والتكنولوجيا لهو دليل على عظمة الله جل وعلا؛ لأنه ما من أمر عجبنا منه ووقفنا متعجبين متأملين بدهشة وغرابة بسبب الإبداع والتدقيق في تصميمه، إلا ونجد أن عند الله جل وعلا ما هو أعظم منه، وليس هذا بغريب، إذ لا يمكن أن يساوى الخالق بالمخلوق.

حينما نأتي بشاشة تلفزيون الآن أمامكم ومعها سماعة أو لاقطة، ونقول: تستطيع أن تتحدث مع رجل في أمريكا وأنت جالس هنا، تقول: الله أكبر! ما هذه الاختراعات؟! نحن نجلس هنا ونتحدث ونرى من يجلس في أمريكا أو في أبعد القارات، ونعجب من هذا عجباً، ولكننا نمر على قول الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:٥٠] أين أصحاب النار؟ في أسفل سافلين، وأين أصحاب الجنة؟ في أعلى عليين، والبعد بينهما أبعد مما بين القارات، ومع ذلك بقدرة الله وأمر الله يجعل أهل الجنة يرون أهل النار: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف:٤٧] أليست هذه من جوانب العظمة الإلهية؟ لقد وقفنا مندهشين متعجبين مستغربين أمام شيء يسير من صناعات البشر، ونقف أمامها بكل احترام، ولا ننظر إلى عظمة الله جل وعلا ودلائلها في الأنفس والكون: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:٥٣].

فيا معاشر المؤمنين! حينما أقول: إن الذنوب سبب الوهن الذي أصاب الأمة وحل بها، وما ذاك إلا أن الأمة مضت واستمرأت واستمرت على فعل الذنوب والمعاصي، دون إدراك لعظمة هذا الرب الذي تعصيه، ودون إدراك لحقيقة هذا الرب الذي تعصيه في عظمته وعلمه سبحانه وتعالى.

فيا معاشر الأحبة: لا شك أن من عصى الله جل وعلا فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، وأن المعاصي هي أعظم أسباب الوهن والضعف.

أليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب له أحد قواده يريد المدد لتدعيم جيش المسلمين قال: انظر جندك، هل فيهم عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إني لا أخشى على الجيش من عدوه، ولكن أخشى على الجيش من ذنوبه.

نعم إن الوهن الذي يصيب الأمة، لا يصيبها من أعدائها وإنما يصيبها من ذات أنفسها: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:١٦٥] فتشوا أنفسكم انظروا جرائدكم انظروا إعلامكم انظروا تعليمكم انظروا حياتكم انظروا في مختلف مجالاتكم!! فما رأيتم فيه مخالفة لله ولرسوله فاعلموا أن ذلك سبب الوهن في الأمة.