للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عِظم نعم الله

الله أكبر يا عباد الله! لو سمعتم كلام أحد البشر وهو يتملق وينافق ويداهن أمام ثري من الأثرياء، أو أمام غني من الأغنياء لقليل من المال، لحفنة من التراب يعطي هذا الثناء وهذه المداهنة وهذه المجاملة، وينسى نعم الله عليه، التي لا تحصى بآلاف الملايين من الدولارات والريالات وغيرها.

أيها الأحبة في الله: من منكم يبيع بصره بمائة مليون، من منكم يبيع سمعه بمائة مليون، من منكم يبيع فرجه بمائة مليون، من منكم يبيع يديه بمائة مليون، من منكم يبيع قدميه بمائة مليون؟ لا والله لا يرضى أحدكم أن يبيع جارحة أو حاسة من حواسه بهذه الملايين، إذاً فأنتم تملكون مئات الملايين وعشرات الملايين وآلافها، ولكن الكثير لا يشكرون الله ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وبعضهم عن ذكر ربهم غافلون.

أيها الأحبة: انظروا إلى معهد الأمل للصم والبكم، انظروا كيف يعانون مراحل التعليم، كيف يواجهون ويشقون طريقة الحياة عبر كثير من الوسائل المساعدة والأجهزة التي تساعدهم قليلاً إلى إدراك لغة التخاطب، وإيصال المعلومة المرادة منهم إلى غيرهم.

عباد الله! أتظنون نعمة السمع سهلة، أتظنون نعمة البصر والبصيرة سهلة، لا والله -يا عباد الله- إنها نعمة جليلة ولكن كثيراً من الناس عنها غافلون: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:٢٣ - ٢٤] وماذا بعد هذا؟ يتحدون ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك:٢٥ - ٢٦] {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:٥٤] وخلق الإنسان جهولاً، هذا الإنسان الضعيف، هذا الإنسان الذي يخلقه الله من العدم ويربيه وينميه وينشز فيه العظام واللحم والعصب والعروق والدماء في بدنه، فإذا استقام سوياً على قدميه وقف خصيماً مبيناً.

وقف العاص بن وائل، وفي رواية أنه أمية بن خلف وفي يده عظم قد أرم وأخذ يفت هذا العظم ويقول: يزعم محمد أن الله يعيدنا خلقاً آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم يخلقك الله ثم يحشرك إلى جهنم) ونزل قول الله: ((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)) من دفقة منوية، من نطفة قذرة يستحي ولا يطيق أن ينظر إليها في يده {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧] خصيم: يخاصم ويجادل، مبين: ببيان وفصاحة وبلاغة، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] من الذي يحييها؟ من الذي ينشزها ويعيدها؟ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩] أنشأها الله من عدم ثم يعجز عن ردها بعد وجودها؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

أيها الأحبة في الله: تفكروا في نعم الله عليكم، تفكروا في آلاء الله في أنفسكم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:١٨] كثير من الناس إذا مرت بجواره سيارة فارهة يقول: لعن الله الفقر، لعن الله القهر، لعن الله الضعف، ويردد عبارات تافهة حقيرة؛ لأنه رأى سيارة مرت أمامه وهي جميلة منمقة ملمعة، ورأى النعم كل النعم في قطع من الحديد والمطاط مجتمعة، ونسي آلاف النعم في بدنه وفي سمعه وفي بصره، مساكين أولئك الذين يرون نعم الله في الحديد والمطاط وينسون نعم الله في أنفسهم وأبدانهم، إن كثيراً من الأثرياء على أتم الاستعداد أن يبذلوا ثلاثة أرباع ملكهم في سبيل إذا جلسوا على مائدة أن يأكلوا ما شاءوا، وإذا أووا إلى فرشهم فعلوا ما يفعل غيرهم، وإذا أرادوا عافية أو ذهاباً أو إياباً وجدوا ذلك في مقدورهم وميسورهم، ومع ذلك رغم أموالهم وثرواتهم قد عجزوا عن كثير من هذا، مسكين ابن آدم مسكين هذا الإنسان.

جاء أحد الوعاظ إلى هارون الرشيد فقال هارون: عظني، قال: يا أمير المؤمنين! لو كنت في فلاة قفر -مفازة من الصحراء- ليس فيها ماء، ثم لم تجد شربة ماء، وأوشكت على الهلاك من العطش ثم بذلت لك شربة ماء بنصف ملكك -بالملك الذي لا تغيب عنه الشمس، بالملك الذي تخاطب فيه السحابة: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك- يا أمير المؤمنين! لو بذلت لك شربة من ماء أتبذل فيها نصف ملكك؟ قال: نعم والله أبذله ولا أتردد، قال: فاشرب هنيئاً مريئاً، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فإذا استقرت هذه الشربة في جوفك ثم احتبست -أصابك الحصر لم تستطع أن تجد مسلكاً لهذه الشربة، عجزت عن البول بالعبارة الصريحة- هل تبذل نصف ملكك في سبيل إخراج هذه الشربة؟ قال: نعم.

أبذل نصف ملكي في سبيل أن أجد لهذه الشربة مسلكاً ومخرجاً، فقال: يا أمير المؤمنين! تباً لملك لا يساوي شربة ماء.

بذلت نصفه في شربة ماء، ثم بذلت النصف الآخر في إخراجها، وتأملوا في أنفسكم -يا عباد الله- انظروا أي طعام تشتهونه، انظروا أي شراب تشربونه، في أي بلاد زرع وفي أي بلاد بذر؟ بذر وزرع في بلاد بعيدة، وانتظر عليه أهله شهوراً طويلة ثم جنوه بأيديهم ثم أرسلوه إلى بلادكم، نعم تترا ونحن عنها غافلون، ثم جئنا إلى السوق وجيوبنا متخمة بالمال فاشترينا ما اشترينا مما اشتهينا، ثم جئنا بهذا النبات أو الشراب إلى البيت فأوقدنا النار ووضعنا القدور وطهينا الطعام والشراب، ثم لم نجد لذته إلا على طرف اللسان، ولما جاوز الحلق تساوى لذيذ الطعام مع رديئه، فترة اللذة لحظة بقاء اللقمة على طرف اللسان، فإذا نفذت إلى الجوف بعد ذلك لا تعرف ماذا أكلت، ولو رد لك ما في جوفك لتقززت منه ولتقيأت منه ولكرهته ومججته، أليس ذلك حقاً يا عباد الله؟! بلى والله يا عباد الله! ثم بعد ذلك إذا استقرت اللقيمات والشراب الذي زرع في بلاد كثيرة بعيدة وجني وصدر ووصل واشتريناه وطهيناه وطبخناه ومر على أطراف ألسنتنا لحظة واحدة ماذا بعد ذلك؟ بقي حبيس في الجوف، وتضايقنا وتمرغنا ووجدنا آلاماً عظيمة حتى نخرج هذا الطعام الذي مر بتلك المسافة الطويلة، من الزراعة والجني والتصدير والطبخ والطهي، حتى يسهل الله له مخرجاً، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لماذا يا عباد الله؟! لكي تعلموا أن لذة الدنيا لحظة، وأن لذة الدنيا دقيقة، ولذة على طرف اللسان، ثم تمضي وتبقى حبيسة الجوف ألماً حتى تخرج، ولكي نشتاق إلى لذات لا تتنغص، ولكي نشتاق إلى نعيم لا يتكدر.

ما أضيق العيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم

والله لو بقينا في هذه الدنيا على أطيب عافية وصحة ما ساغ لنا القرار ونحن نعلم أننا سننقل من الدور إلى القبور، ومن الفرش إلى اللحود، ومن السعة إلى الضيق، ومن النور إلى الظلام، أيهنأ إنسان هذا شأن حياته؟! أيها الأحبة في الله: لو أتينا برجل من هذا الباب ودعوناه في هذه الساحة وأنتم وأنا نعلم أننا سنقتله بعد ربع ساعة، وهو لا يعلم المسكين، ثم قلنا: تفضل هذا الطعام وكل هذا الشراب، فأخذ يأكل ويتلذذ وينكس رأسه ويقلب طرفه في هذا النعيم الذي بين يديه، ألسنا وإياكم نضحك؛ لأنه سوف يأكل هذه اللقم والنعم ثم سوف يفارق الدنيا بعدها، نعم نضحك على عقله ونقول: هذا المسكين لا يدري ماذا ينتظره، فلنضحك على أنفسنا لأننا نتناول قليلاً من الطعام والشراب والآخرة تنتظرنا، وظلمة اللحود في انتظارنا، إلا من نور الله عليه قبره بالتوبة الصادقة والعمل الصالح، فما أجهل العقول والقلوب في هذا الزمان، أعدوا لدار ننتقل إليها.

يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.