للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ورع الشيخ عبد الله عزام رحمه الله]

أيها الأحبة في الله: كان رحمه الله جسراً متيناً بيننا وبين الجهاد، كنا لا نعرف أخبار الجهاد والمجاهدين، وولايات أفغانستان وأخبارها العسكرية، والتموينية، والدعوة في تلك الصفوف إلا عبر مجلته الجهاد، وعبر المجلات التي كانت على نفس الصف والمنوال، البنيان المرصوص، والمجاهد، ولهيب المعركة، والملتقى، كان له دور عاطر واضح فيها، نسأل الله أن يجعل ذلك في موازين أعماله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:٨].

يريدون أن يقتلوا الجهاد بقتل عزام، وما علموا أن أماً أنجبت عزام مثلها مئات الأمهات تنجب الأبطال والرجال والأجيال، هنيئاً لمن مات هذه الميتة.

وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جباناً

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

كان رحمه الله أستاذاً في الجامعة الأردنية، كان بوسعه أن يكون يوماً ما رئيساً أو ذا منصب مرموق في تلك الجامعة أو ذا منصب في تلك الدولة، ولكنه ترك المراتب والمناصب، والمراكب والمفارش وهاجر بنفسه وبزوجته وبأولاده ووالده وبناته إلى أرض الجهاد، وعاش في بيت متواضع في مكان متواضع، والله -يا عباد الله- كان بوسعه رغم الملايين المتدفقة عليه من أنحاء العالم كي يبذلها في الجهاد، وكفالة الأيتام، وكفالة المجاهدين والشهداء والأرامل، والمعوقين كان بوسعه أن يفتي لنفسه أو يتأول لنفسه ليشتري بيتاً فاخراً فارهاً عامراً أو سيارة مريحة، لكنه سكن بيتاً متواضعاً، سكن داراً صغيرة متواضعة، وركب سيارة صحراوية، سيارة كان بوسعه أن يركب ما هو أفخر وأفضل منها؛ لكنه كان يحاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، كل ذلك ألا يدخل ماله وجيبه، قرشاً واحداً من أموال المجاهدين، في بقعة هاجر إليها وترك تلك البلاد، هاجر إلى أرض قد تكون من دول العالم المتخلفة، أو دول العالم النامية، تنقصها كثير من الخدمات، رضي بأن يعيش هناك وترك عيشة الترف وعيشة الرفاهية، ليختار شظف العيش وخشونته.

كان رحمه الله صديقاً للشيخ تميم العدناني رحم الله تميماً رحمة واسعة، كان مثله يشهد هذه المشاهد والمعارك والغزوات واللقاءات ضد أعداء الإسلام، في يوم واحد، في المأسدة، في لهيب المعركة، لم يشعر المسلمون المجاهدون إلا وسحب الطائرات تحلق على مواقعهم ومعسكراتهم ثم أمطرت نيرانها وقذائفها، والشيخ تميم كان مستظلاً بظل شجرة، لم يستطع أن يتجاوز مكانه؛ لأنه لو جاوز شبراً واحداً من ماطر القنابل والقذائف لنالته، كان جالساً تحت شجرة يقرأ كتاب الله، قرأ خمسة أجزاء من القرآن تحت تلك الشجرة التي تناثرت أغصانها وجذوعها وهو قاعد مكانه، وكل يناديه، تعال يا شيخ! تعال هنا، انج بنفسك، فيقول: أبقى هنا، اسأل الله أن أكون شهيداً، وإن بقي لي حياة تقدمت لأرمي أعداء الإسلام الشيوعيين، كان يريد الشهادة في سبيل الله، لكن نسأل الله أن يؤتيه أجر الشهداء، مات بنوبة قلبية، يوم أن كان مسافراً إلى أمريكا رحمه الله رحمة واسعة، فحزن عزام حزناً بليغاً على فراق صاحبه تميم وكتب في رثائه، ما وهي إلا أسابيع معدودة، فمات عزام شهيداً بعده، فمن الذي يرثيك يا عزام؟ ومن الذي لك إلا الله جل وعلا.

نسأله أن يجعلك من الشهداء، نسأله أن يجعل روحك في الجنة، وأرواح شباب المسلمين المجاهدين، وأن يجمعك بجميع المسلمين في دار كرامته، الله أكبر يا عباد الله! {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩].

هاجر رحمه الله والله جل وعلا يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:٥٨] {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:١٥٤] رحمك الله يا عزام.

عرفناك حراً طوال السنين تبيع الحياة لرب ودين

فإن كنت فارقت دار اختبار فأنت شهيد مع الخالدين

نسأل الله أن نكون وإياك مع الشهداء في صحبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قدمت النساء يعزين زوجته جبر الله مصيبتها وخلفها خيراً من ذلك، قدمت النساء يعزين زوجته فخرجت إليهن وقالت بروح الأم المسلمة الصامدة: أتعزونني والله إنها لمفخرة لي أن أقدم زوجي واثنين من أولادي في سبيل الله، أمٌّ لا كالأمهات، أين الأم التي كان ولدها يسافر إلى مانلا وإلى بانكوك وهي تحزم أمتعته وملابسه وتودعه، ولما من الله عليه بالهداية وقال: يا أمي! أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله قالت: لا.

لا يا ولدي، إني أخاف عليك، أتخافين أن يموت؟! يوم أن كنت تحزمين أمتعته وتعدين ملابسة وتعدين متاعه يسافر إلى تلك الدول ما قلت: أخاف عليك أن تموت موتة سيئة، أو أن يختم لك بسوء الخاتمة، ويوم أن أراد الجهاد تقفين له وتقولين: لا يجوز الجهاد إلا برضى الوالدين، نعم.

نحن نقر وندين الله جل وعلا أنه لا يجوز الجهاد إلا برضى الوالدين، ولكن كيف تأذنين له وترضين بسفره هناك، والآن تمنعينه وتقفين أمامه يوم أن أراد أن يموت شهيداً في سبيل الله؟ إذا مات شهيداً كان شافعاً لك عند الله جل وعلا.

عباد الله: اعلموا أنها سنة الله في الحياة، واعلموا أن جثة الشيخ بقيت سليمة لم تتناثر ولم تتجزأ، انشطرت السيارة وتناثرت أشلاء من معه، إلا جثته وحده رحمه الله، فبقيت سليمة صحيحة، ما تناثر منها شيء، ومات ولفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله في الطريق إلى المستشفى رحمه الله رحمة واسعة، هكذا تحيا الدعوات، وهكذا ينتشر الحق، وهكذا يظهر النور.