للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحزم في العمل]

أيها الأحبة: إننا لا ننتظر أن تقودنا أنفسنا بطبعها إلى الجد والمكرمات، والمعالي والحزم والقمم، والشجاعة والكرم، والتدين والالتزام والاستقامة، هذه درجات لا يبلغها أحد إلا بالمجاهدة؛ فلكي تكون كريماً لا بد أن تجاهد النفس في بذل المال، ولكي تكون شجاعاً لا بد أن تجاهد النفس في الاستهانة بالموت، ولكي تكون طالب علم لا بد أن تجاهد النفس في سهر الليل بالقراءة والكتابة والمراجعة، ولكي تكون نافعاً لا بد أن تفوت كثيراً من الملذات والمباحات من أجل أن تبلغ هذه القمة التي تريدها.

أما أن يريد الإنسان أن يكون قمة بدون بذل، ويريد أن يكون رأساً بدون سعي، ويريد أن يكون جبلاً بدون همة، فذاك كما قال القائل:

تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا

أم الوليد امرأة تقول لأحدهم: لو تكرمت انظر لي جملاً يمشي ببطء -مثلما يقال: على أقل من مهله- ولكن يصل أول واحد.

تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجي أولا

لا يمكن هذا! تريد كسلاً ونوماً، ومتابعة للنفس؛ النفس تريد مشاهدة فيلم فشاهد فيلماً، النفس تشتهي جلسة مع شباب ضائعين فارغين فتجلس معهم، النفس تشتهي أن تشبع من النوم فتدعها تشبع من النوم، ثم تطالب النفس أن تكون نفس كريم، ونفس شجاع، ونفس داعية، أو نفس معلم أو نفس عالم، هذه مسألة صعبة جداً.

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

المسألة: كل يتمنى أن يكون عالماً، لكن من فاز بالعلم؟ أولئك الذين رأوا فيلماً فأعرضوا عنه وسهروا الليل على القراءة، كل يتمنى أن يكون تاجراً لكن من نال التجارة؟ ذاك الذي هجر الفراش وقام مع الطير: قام مع الطيور صباحاً، وأخذ يسعى في طلب الرزق، ولم يؤب إلى بيته إلا حينما أعشاه المبيت.

كل يتمنى أن يكون طبيباً جراحاً، لكن الذي لا يريد من التخصصات إلا أدناها ومن الهمم إلا أقلها، وتجده يغيب في الأسبوع ثلاثة أيام، واليومين الآخرين لا يحضر إلا من الساعة التاسعة والنصف، ويجلس في آخر الفصل، وتقديراته مقبول وأقل من مقبول أو راسب ضعيف، ويريد بعد ذلك أن يكون طياراً، أو أن يكون طبيباً، أو أن يكون أستاذاً، وآخر يريد أن يتفوق في العلوم الشرعية ولكن قد أشغلته المباريات الأولمبية وكأس العالم، لا يا أخي.

المسألة لو كانت بالتمني لرأيت كل من حولك علماء، وسادة، وقادة، وأساتذة، وأطباء، وموجهين، ولكن من فاز بهذه الأماني؟ من أمهر الأمنية عملاً، الأمنية: عروس يبذل مهرها بالجد والاجتهاد، والعمل والمثابرة، فمن حزم أمره، وجمع همته، واجتهد في قصده وجد الخير بإذن الله.

ومن زرع البذور وما سقاها تأوه نادماً وقت الحصاد

أيها الأحبة: ينبغي أن نعرف جيداً أن الحزم أصل من أصول الدين، الله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:٦٣]، وقال جل وعلا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:١٢] إذا أردنا أن نكون أمة ملتزمة مستقيمة، وأردنا أن نكون شباباً على مستوى من العلم والفهم والوعي، والتأثير والإفادة، وتحريك طاقات المجتمع ونفع المسلمين لا بد أن نأخذ الأمور بحزم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:٦٣] قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨] فلا نريد مسلماً يأتي يقول: أنا مسلم لكن هذه المسألة يقول الطنطاوي الذي في مصر: إنها مختلف فيها، والمسألة هذه يقول الباقوري الذي في لبنان: إنها مختلف فيها، والمسألة هذه يقول الفاخوري الذي في موزمبيق: مختلف فيها، والمسألة هذه يقول فلان الذي في السلفادور: مختلف فيها، إذاً اختر من الدين أربع مسائل تمسك بها وضيع بقية مسائل الدين؛ لأن هذه فيها خلاف، وهذه فيها أقوال، وهذه فيها سين وجيم، ومن ثم لا تتمسك من دينك إلا بشيء قليل، وضيع ما بقي من دينك بحجة الرخص التي أفتى بها فلان وعلان، وقديماً قال الفقهاء: (من تتبع الرخص تزندق).

وإني أعجب -أيها الإخوة! - من رجال وشباب يوم أن تناقشهم في أمر من أمور الدين، يقول أحدهم: يا أخي! ليس في الدنيا إلا مشيختكم في نجد أو في المملكة؟! هناك شيخ في الديار الفلانية يقول: هذا ليس فيه شيء، وهناك شيخ أفتى أن الربا حلال، وهناك شيخ يقول: المرأة أن تكشف وجهها وتخرج مع السائق حلال، وهناك شيخ يقول: ليس من داعٍ أن تصلي مع الجماعة صلِّ في البيت حلال، وهناك شيخ يفتي أن الربا في القروض الإنتاجية حلال، وهناك شيخ يقول: كذا وكذا،

و

السؤال

افرض أن عندك سيارة من السيارات الفارهة الفاخرة، ولتكن من نوع (لكسز) وحصل في هذه السيارة عطب أو خراب أو خلل، هل تتوقع أن صاحب هذه السيارة التي أعدت وصنعت على أعلى مواصفات التقنية والتطور، والكفاءة والأداء فهل تظنون أن صاحب السيارة يذهب بها إلى بنشري، ويقول: ما هو رأيك في السيارة هل فيها خراب؟ أو يذهب بها إلى إنسان تخصصه دراجات نارية (سوزوكي) أو (هوندا)؟ لا يذهب إطلاقاً، هذه اسمها (لكسز) ولا يمكن لأي مهندس أن يعبث فيها، ولا يمكن لأي واحد حتى ولو كان تخصصه سيارات يابانية أو أمريكية أو سويدية أن يعبث بها محاولاً إصلاحها، لا.

القضية تحتاج أن يذهب بهذه السيارة الثمينة إلى الوكيل المعتمد، إلى الوكالة، فإن الوكالة التي صنعت هذه السيارة أدرى بما يصلح لها، وأدرى بالشيء الذي ينفع لها حين خرابها.

كذلك إنسان لو أصابه تسوس في سن من أسنانه، أو يريد حشو عصب، أو مشكلة من مشاكل الأسنان، هل يذهب ويطرق على ولد الجيران الذي يدرس في المعهد الصحي الثانوي، ويقول: تعال أصلح لي أسناني؟ وهو أيضاً لا يقبل أن يذهب إلى إنسان يدرس في سنة أولى أو سنة ثانية طب أسنان، يقول: لا.

هذا سن مهم، لا بد أن أذهب إلى المركز التخصصي للأسنان، الذي فيه أفضل الخبرات التي استوردت، وتعمل على أحدث أساليب علاج وطب الأسنان.

فلما جئنا إلى السيارة ما قبلنا أن يصلح فيها أي واحد، بل ذهبنا إلى الوكيل المعتمد والوكالة التي صنعت هذه السيارة، ولما جئنا إلى سن من الأسنان ذهبنا إلى مركز متخصص في الأسنان، لكن لما جئنا إلى مسألة الدين تلقى الواحد يقابل له واحداً في سوق الخضرة يبيع فجلاً، يقول له: ما هو رأيك في هذه المسألة: حلال أم حرام؟ يقول له بائع الفجل: لا.

هذه حلال، يقول له: (الله يوسع عليك هذا الشيخ وإلا بلاش).

فتجد من الناس العجب في أمر نفسه، وفي أمر سيارته لا يقبل إلا كلام المتخصصين الوكلاء المعتمدين، وأما في أمر الدين فإنه يقبل قول من هب ودب، هل هذا أمر يقبل؟! سبحان الله! لما كان أمر الدنيا ما قبلت إلا أعلى المستويات خبرة وعلماً في الإجابة عنها، ولما جاء أمر الدين جئت تقول لي: قال فلان الفلاني في مصر، وإلا في السودان، وإلا في البلد الفلانية: هذا حلال! سبحان الله العلي العظيم! لماذا لا تأخذ بقول الشيخ ابن باز، الذي لا نعلم على وجه الأرض أتقى وأعلم بالله ولله منه إلا من لا نعلم، المهم هؤلاء الأتقياء ينبغي أن يؤخذ منهم الدين كما أنك ترجع إلى الوكلاء في أمور دنياك.